الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: كيف آخى النبي بين أصحابه

          ░50▒ (بَابٌ): بالتَّنوين (كَيْفَ آخَى): بمدِّ الهمزةِ وفتح الخاءِ المعجمةِ، من المؤاخاةِ (النَّبِيُّ صلعم بَيْنَ أَصْحَابِهِ): أي: المهاجرينَ والأنصارِ، تقدَّم الكلامُ على المؤاخَاةِ في باب آخى النَّبيُّ صلعم بينَ المهاجرينَ والأنصارِ من مناقبِ الأنصارِ، وذكر المصنِّفُ هذا البابَ لكيفيَّةِ المؤاخاةِ؛ لكونه في الظَّاهرِ مثل الباب السَّابقِ وإن اختلفَتْ التَّرجمتانِ، فليُتأمَّل.
          وصفةُ عقدِهَا كما في القسطلانيِّ آخرَ البابِ: وآخيتُكَ في اللهِ وأسقطنا الحقوقَ والكلفَةَ، ويقول الآخرُ مثله، ويدعوهُ بأحبِّ أسمائِهِ، ويُثنِي عليه، ويدعو له أبداً في غيبتِهِ، ولا يُسمِّع فيه ولا في مسلمِ سوء، ولا يُصادِقُ عدوَّه، وتفرُّق كلٍّ على ودِّ صاحبهِ ورعايتهُ شرطٌ؛ لحديثِ: ((تحابَّا في اللهِ، اجتمعَا على ذلكَ وتفرَّقَا عليه)) وبسْطُ ذلك في موضعِهِ، انتهى.
          قال ابنُ عبد البرِّ: كانَتْ المؤاخاةُ مرَّتينِ، مرَّةً بينَ المهاجرينَ خاصَّةً، وذلك بمكَّةَ، فآخى فيها بينَ أبي بكرٍ وعمرَ، وبين حمزةَ وزيدِ بن حارثة، وبين عثمانَ وعبدِ الرَّحمن بن عوف، وبين الزُّبير وابن مسعودٍ، وبين عبيدة بن الحارث وبلال، وبين مُصعَب بن عميرٍ وسعد بن أبي وقَّاص، وبين أبي عبيدةَ وسالمٍ مولى أبي حذيفة، وبين سعدِ بن زيدٍ وطلحةَ بن عبيد الله، وبين عليٍّ ونفسِه، ومرَّةً بينَ المهاجرين والأنصارِ فهي المقصُودةُ هنا، وذكرَ ابن سعدٍ / بأسانيدِ الواقديِّ إلى جماعةٍ مِن التَّابعين قالوا: لمَّا قَدِمَ النَّبيُّ صلعم المدينةَ آخى بينَ المهاجرينَ، وكذا بينَ الأنصارِ على المواساةِ، وكانوا يتوارثون، وكانوا تسعينَ نفساً، بعضهم من المهاجرينَ وبعضهم من الأنصارِ، وقيل: كانوا مائةً، خمسينَ من المهاجرين وخمسينَ من الأنصارِ، فلمَّا نزل: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال:75]...الآية بطَلت المواريثُ بينهُم بتلك المؤاخَاةِ، وقال السُّهيليُّ: آخَى النَّبيُّ ◙ بينَ أصحابهِ ليُذهِب عنهم وحشَةَ الغُربةِ ويتأنَّسوا عن مفَارقةِ الأهلِ بها والعشيرَةِ، ويشدُّ بعضُهم بعضاً، فلمَّا عزَّ الإسلامُ واجتمع الشَّملُ وذهبتِ الوحشَةُ أبطلَ الله المواريثَ بها، وجعلَ المؤمنين كلَّهم إخوةً، وأنزل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]؛ أي: في التَّوادُدِ وعمومِ الدَّعوةِ لهم.
          واختلفوا في ابتدائِهَا فقيل: ابتدأت بعدَ الهجرةِ بخمسة أشهرٍ، وقيل: بسنةٍ وثلاثةِ أشهرٍ قبل بدرٍ، وقيل: بتسعةٍ، وقيل: وهو يبني المسجِدَ، وقيل: قبلَ بنائه، وقيل: وقعتِ المؤاخاةُ فيه، انتهى وأطالَ في ذلك فراجعْهُ.
          ومنه قوله: وأنكرَ ابن تيميةَ في كتاب ((الرَّدِّ على ابن المطهِّر الرَّافضيِّ)) المؤاخاةَ بينَ المهاجرينَ، وخُصُوصاً مؤاخاة النَّبيِّ صلعم لعليٍّ، قال: لأنَّ المؤاخاةَ شُرِعَتْ لإرفاقِ بعضِهم بعضاً، وليتآلفَ قلوبَ بعضِهم على بعضٍ، فلا معنَى لمؤاخَاةِ النَّبيِّ لأحدٍ منهم، ولا لمؤاخَاةِ مهَاجريٍّ لمهاجريٍّ.
          قال في ((الفتح)): وهذا ردٌّ للنَّصِّ بالقياسِ، وإغفَالٌ عن حكمَةِ المؤاخَاةِ؛ لأنَّ بعضَ المهاجرينَ كان أقوَى من بعضٍ بالمالِ والعشيرةِ والقوَّةِ، فآخَى بينَ الأعلى والأدنَى؛ ليرتفِقَ الأدنى بالأعلَى، ويستعينَ الأعلى بالأدنى.
          (وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ): ممَّا وصله المصنِّف أوَّل البيوعِ (آخَى): بمدِّ الهمزةِ (النَّبِيُّ صلعم بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ): بفتحِ الرَّاء؛ أي: الأنصاريِّ (لَمَّا): بتشديدِ الميمِ (قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ): أي: مهاجرينَ من مكَّة.
          (وَقَالَ أَبُو جُحَيْفَةَ): بجيمِ فحاء مهملةٍ مصغَّراً، وهو: وَهْبُ بن عبدِ الله السُّوائيُّ، من صغار الصَّحابةِ، ممَّا وصلهُ المصنِّف في كتابِ الصَّوم (آخَى النَّبِيُّ صلعم بَيْنَ سَلْمَانَ): أي: الفارسيِّ (وَأَبِي الدَّرْدَاءِ).
          قال في ((الفتح)): الغَرضُ منه التَّنبيهُ على تسميةِ مَن وقعَ الإخاءُ بينهُم من المهاجرِينَ والأنصَارِ، ولمسلمٍ عن أنسٍ: آخَى النَّبيُّ صلعم بينَ أبي طلحةَ وأبي عُبيدة، وتقدَّم في الإيمانِ حديث عمرَ: كان لي أخٌ من الأنصَارِ، وكنَّا نتناوبُ النُّزولَ على رسُولِ الله وهو: عتبان بن مالكٍ، قال ابنُ إسحاقَ: كان أبو بكرٍ الصِّدِّيق وحارثةَ بن زيدٍ أخوين.