الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب [التاريخ من أين أرخوا التاريخ؟]

          ░48▒ (بَاب مِنْ أَيْنَ أَرَّخُوا التَّارِيخَ) قال شيخُ الإسلامِ: أي: مِن أيِّ وقتٍ كان ابتداؤُهُ، قال: وفي نسخةٍ <باب التاريخ>، وفي أخرى: <باب التَّاريخ من أين أرَّخوا التَّاريخ> انتهى.
          وأقول: نسب الأُولى القسطلانيُّ لغيرِ أبي ذرٍّ، والثانيةُ لأبي ذرٍّ على ما قد يُفهَم من كلامِهِ، فليُتأمَّل.
          واقتصرَ في ((الفتح)) و((العُمدة)) على الثَّالثة، ووقعَ في نُسَخٍ: <باب التَّاريخ ومتى أُرِّخ التَّاريخ>، وفي أخرى: <باب، حدَّثنا عبدُ اللهِ بن مَسلَمة> مِن غير ترجمةٍ، وكلُّها ظاهرةٌ ما عدا الأخيرةِ، فإنَّها تحتاجُ إلى تأمُّلٍ.
          ونتكلَّم على الأُولى فنقولُ: ((من أين)) متعلِّقٌ بـ((أرَّخوا))؛ أي: من أيِّ زمنٍ، فـ((أين)) استفهاميَّة وضميرهُ للمؤرِّخين المعلوم من المقامِ، وفي بعضٍ: <أرخ> من غيرِ واوٍ مبنيٌّ للمفعولِ، و((التَّاريخ)) في اللُّغة مصدر: أرَّخ، بالهمزةِ، ومثلُهُ التَّوريخ مصدرُ ورَّخ بالواوِ.
          قال العينيُّ: وفرَّق الأصمعيُّ بينَ اللُّغتينِ فقال: بنو تميمٍ يقولون: ورَّختُ الكتابَ توريخاً، وقيسٌ تقول: أرَّختهُ تأريخاً، قال: وقيل: التَّاريخُ معرَّبٌ من ماه وروز، ومعناه: حسابُ الأيَّام والشُّهور والأعوامِ، فعرَّبته العربُ، وهو لغةً: تعريفُ الوقتِ من حيث هو وقتٌ، وقيل: اشتقاقُهُ من الإرخ بكسرِ الهمزةِ: الوقتُ، وقيل: الأرخُ: الأُنثى من بقر الوحشِ، كأنَّه شيءٌ حدث كما يحدث الولدُ، وقيل في الثَّاني بفتحِ الهمزةِ، وجمعه: إراخ، مثل: فرخٍ وفِراخ، وأمَّا في الاصطلاحِ فقيل: هو توقيتُ الفعلِ بالزَّمان ليُعلَم مقدار ما بينَ ابتدائِهِ وبين أيِّ غايةٍ فُرِضت له، فإذا قلت: كتبتُهُ في يومِ كذا في شهر كذا من سنَةِ كذا، وقرئ: ما كتبتُه بعدَ ذلك بسنةٍ مثلاً عُلِم أنَّ ما بينَ الكتابة وقراءتِها سنة، وقيل: هو أوَّل مدَّة الشَّهر لعلْمِ ما مضى، واختصَّت العربُ بأنَّها تُؤرِّخ بالسَّنة القمريَّةِ دون الشَّمسيَّة، فلهذا تُقدَّم اللَّيالي على الأيَّام في التَّاريخ؛ لأنَّ الهلالَ إنَّما يظهرُ باللَّيل.
          قال في ((الفتح)): كأنَّه يُشيرُ _أي: بقولِهِ / : من أينَ أرَّخوا التَّاريخَ؟_ إلى اختلافٍ في ذلك، فروى الحاكمُ في ((الإكليل)) عن الزُّهريُّ أنَّ النبيَّ صلعم لمَّا قدم المدينةَ أمر بالتَّاريخ، فكتبَ في ربيع الأوَّل، وهذا معضلٌ، والمشهورُ خلافه كما سيأتي، وأنَّ ذلك كان في خلافةِ عُمر، قال: وأفادَ السُّهيليُّ أنَّ الصَّحابةَ أخذوا التَّاريخَ بالهجرةِ من قوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة:108]؛ لأنَّه من المعلومِ أنَّه ليس أوَّل الأيَّام مطلقاً، فتعيَّن أنَّه أُضيفَ إلى مضمرٍ، وهو أوَّل الزَّمنِ الذي عُزَّ فيه الإسلام، وعبَدَ النبيُّ صلعم ربَّه آمناً، وابتدأ بناءَ المسجدِ فوافقَ رأي الصَّحابةِ ابتداءَ التَّاريخِ من ذلك التَّاريخ، وفهمنا من فعلِهِم أنَّ قوله تعالى: {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} أنَّه أوَّل أيَّام التَّاريخ الإسلاميِّ، انتهى.
          قال في ((الفتح)): كذا قال، والمتبادَرُ أنَّ معنَى قوله: {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} أي: دخل فيه النَّبيُّ صلعم المدينةَ، وقال شيخُ الإسلامِ: وأمَّا ابتداؤُهُ في زمنهِ ◙ فقيل: من مَولده، وقيل: من مَبعثه، وقيل: من وفاتِهِ، وقيل: من هجرتهِ وهو المشهورُ، قال: وعليه اختلفوا في شهرِهِ فقيل: رجب، وقيل: رمضان، وقيل: المحرَّم، وهو المشهورُ؛ لأنَّه أوَّل السَّنةِ، ولأنَّ الهجرةَ من مكَّة كانَتْ فيه.
          وقال ابنُ الجوزيِّ: لمَّا كثرَ بنو آدم أرَّخوا بهبُوطِ آدم، وكان التَّاريخُ إلى الطُّوفانِ، ثمَّ إلى نار الخليلِ، ثمَّ إلى زمانِ يوسُفَ، ثمَّ إلى خروجِ موسى ببني إسرائيلَ مِن مصر، ثمَّ إلى زمنِ داودَ، ثمَّ إلى زمن سُليمانَ، ثمَّ إلى زمنِ عيسى، ورواهُ ابن إسحاقَ عن ابن عبَّاسٍ، وقيل: أرَّخت اليهودُ بخراب بيت المقدسِ، والنَّصارى برفْعِ المسيحِ، وحكى محمَّد بن سعدٍ عن ابن الكلبيِّ أنَّ حِمْيَر كانَتْ تُؤرِّخ بالتَّتابعة، وغسَّان بالسَّدِّ، وأهل صنعاءَ بظهورِ الحبشَةِ على اليمنِ، ثمَّ بغلبَةِ الفرسِ، ثمَّ أرَّخَتِ العربُ بالأيَّام المشهورة كحرب البَسوس وداحسَ والغبراء وبيوم ذي قارٍ والفجَاراتِ ونحوها، وبين البسُوس ومبعث النَّبيِّ صلعم ستُّون سنةً.
          تنبيه: اختلفوا في سببِ التَّاريخ، فروى ابن السَّمرقنديِّ أنَّ أبا موسى الأشعريَّ كتب إلى عُمر أنَّه يأتينا منك كتبٌ ليس لها تاريخٌ، فأرِّخْ لتستقِيمَ الأحوال، فأرَّخ، وقال أبو اليقظان: رفعَ إلى عمر صكٌّ محلُّه في شعبانَ، فقال: إيما شعبان؟ هذا الذي نحنُ فيه أم الماضِي أم الَّذي يأتي؟ وقال الهيثمُ بن عديٍّ: أوَّل مَن أرَّخ يعلى ابن أُميَّة، حيث كان عاملاً باليمنِ كتب إلى عُمَر كتاباً مؤرَّخاً، فاستحسَنَه وشرعَ في التَّاريخِ.
          وروى ابنُ أبي خيثمَةَ عن ابن سيرينَ قال: قدم رجلٌ من اليمنِ فقال: رأيتُ باليمنِ شيئاً يُسمُّونه التَّاريخ يكتبونه من عامِ كذا وشهر كذا، فقال عُمر: هذا حسنٌ، فأرَّخوا من خروجِهِ ◙ من مكَّةَ إلى المدينةِ من الحرم؛ لأنَّه مُنصرَف النَّاس من حجِّهم، وقال ابن عبَّاس: لمَّا عزم عمرُ على التَّأريخِ جمع الصحابَةَ فاستشَارَهُم / ، فقال سعدُ بن أبي وقَّاص: أرِّخْ لوفاةِ رسول الله، وقال طلحَةُ: لمبعثه، وقال عليُّ: لهجرتِهِ، فإنَّها فرَّقت بينَ الحقِّ والباطِلِ، وقال آخرون: لمولده، وقال قومٌ: لنبوَّتهِ، وكان هذا في سنة سبعَ عشرةَ من الهجرة، وقيل: في سنة ستَّ عشرة.
          واتَّفقوا على قول عليٍّ ثمَّ اختلفوا في الشَّهر فقال عبد الرَّحمن بن عوفٍ: أرِّخْ لرجب، فإنَّه أوَّل الأشهرِ الحرم، وقال طلحةُ: لرمضَان؛ لأنَّه شهر الأُمَّة، وقال عليٌّ: من المحرَّم؛ لأنَّه أوَّل السَّنة انتهى فتأمَّلْه.
          وقال في ((الفتح)) بعدَ أن أطالَ: فاستفَدْنا من مجموعِ هذه الآثارِ أنَّ الَّذي أشارَ بالمحرَّم عُمر وعثمانُ وعليٌّ ♥.