الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب البزاق والمخاط ونحوه في الثوب

          ░70▒ (بَابُ البُزَاقِ): بالزاي للأكثر، وبالصاد، قال في ((الفتح)): وهي روايتنا، وبالسين، وهي أضعف لغاته، والباء مضمومة في الثلاثة، وهو ما يسيل من فم الإنسان مما ليس بدم (وَالمُخَاطِ): بضم الميم: ما يسيل من الأنف ولو رقيقاً (وَنَحْوِهِ) أفرد الضمير والقياس التثنية؛ لأن المراد: كل منهما أو المذكور، وذلك كالعرق، والبلغم، وهو ما يخرج من الصدر.
          وقوله: (فِي الثَّوْبِ): متعلق بما أضيف إليه (باب): أي: هذا باب بيان حكم المذكورات أو بمحذوف صفة أو حال مما قبله، ويحتمل أن يضاف (باب) فالبزاق وما عطف عليه مبتدأ، والخبر محذوف لدلالة المقام عليه؛ أي: لا يضر المصلي ولا غيره، وعليهما فباب: خبر لمحذوف كما قدرناه. وأما جعل العيني له مبتدأ على أحد إحتمالين وخبره محذوف: فغير ظاهر، وكذا تقدير الخبر بما قدره، فافهم.
          ومثل الثوب: البدن، والمكان للمصلي.
          ثم قال العيني: وعرق كل حيوان تابع لسؤره الذي يمتزج بلعابه، ويستثنى منه الحمار على ما عرف في الفقه. انتهى.
          وأقول: المعروف في مذهبهم: أن عرقه مشكوك فيه كسؤره فلعل ما ذكره قول لبعض الحنفية، وعبارة (الملتقى) و((شرحه)) للعلائي: وسؤر الآدمي مطلقاً، والفرس في الأصح، وما يؤكل لحمه سوى دجاجة مخلاة طاهر لتولد لعابهم المختلط بالماء من لحم طاهر، وسؤر الكلب، والخنزير نجس لنجاسة لحمهما، وسؤر الهرة، والدجاجة المخلاة، وسباع الطير، وسواكن البيوت كالحية، والفأرة مكروه، وسؤر البغل إذا كانت أمه حمارة، فلو كانت فرساً فحكمه حكم الخيل، وكذا لو كانت أمه بقرة؛ لأن العبرة بالأم، والحمار _لا فرق بين الذكر والأنثى في الأصح_ مشكوك في طهوريته، وعليه الفتوى، يتوضأ به إن لم يجد غيره ويتيمم؛ أي: يجمع بينهما احتياطاً في صلاة واحدة، لا في حالة واحدة، وأيما قدم جاز، والأفضل: تقديم الوضوء، والغسل به، والأحوط: النية فيه، وعرق كل شيء كسؤره لتولدهما / من لحمه، فعرق الحمار إذا وقع في الماء صار مشكلاً على المذهب كما في (المستصفى). انتهت.
          وهذا مذهب الحنفية، وأما مذهبنا: فعرق سائر الحيوانات، وكذا سؤرها طاهر، ولو من غير مأكول اللحم إلا من الكلب، والخنزير، وما تولد منهما أو من أحدهما؛ فإنه نجس كالخارج منه، وكذا عند مالك من غير استئناء، وأما مذهب الحنابلة: فهو مختص بالمأكول.
          ثم قال العيني: إن وجه المناسبة بين البابين ظاهر على وضع المصنف؛ لأنه وضع الباب السابق فيما لا يفسد صلاة المصلي إذا طرأ عليه، وهذا الباب كذلك، واعترض على قوله: ودخول هذا في أبواب الطهارة من جهة أنه لا يفسد الماء: بأنه لا ذكر للماء في البابين؛ لكن إذا كان حكم البصاق، لا يفسد الثوب، فكذلك لا يفسد الماء.
          وأقول: ما في ((الفتح)) بيان لوجه إيراده في أبواب الطهارة، لا لبيان المناسبة بين البابين، فلا يرد ما قاله.
          وقال في ((الانتقاض)): قد اعترف بما أنكر.
          وقال الكرماني: وجه تعلق الحديث بكتاب الوضوء: من حيث أنه إذا تبين طهارة النخامة، يعلم أنه لو وقعت في الماء لا يتنجس الماء، ويجوز الوضوء به، أو المراد من كتاب الوضوء: كتاب الطهارة عن الحدث، ويتبعها الطهارة من الخبث، والفحص عن نفس الحدث والخبث، ومعناهما، وهذا هو الجواب عن أمثال هذه الأبواب
          (وقَالَ عُرْوَةُ): أي: ابن الزبير مما وصله المصنف في قصة الحديبية (عَنِ المِسْوَرِ): بكسر الميم وسكون السين المهملة وفتح الواو آخره راء: ابن مَخْرَمَة _بفتحات سوى الخاء المعجمة فإنها بالسكون_ صحابي صغير، تقدم في باب استعمال فضل وضوء الناس (وَمَرْوَانَ): بفتح الميم وسكون الراء: هو أبو عبد الملك بن الحَكَم _بفتحتين_ الأموي، ولد في حياة رسول الله صلعم ولم يسمع منه؛ لأنه خرج طفلاً مع أبيه الحكم إلى الطائف لما نفاه رسول الله صلعم إليها؛ لأنه كان يفشي سره فبقي معه حتى استخلف عثمان فردهما إلى المدينة، وكان إسلام الحكم يوم فتح مكة، ومات في خلافة عثمان، وأما ولده مروان؛ فإنه لما توفي معاوية بن يزيد بايعه بعض الناس في الشام بالخلافة، ومات بدمشق سنة خمس وستين.
          وقال في ((التقريب)): ولي الخلافة في آخر سنة أربعة وستين، ومات سنة خمسة في رمضان، وله ثلاثة أو إحدى وستون سنة، لا تثبت له صحبة، بل هو من كبار التابعين. انتهى.
          وقال النووي في ((التهذيب)): لم يسمع من النبي، ولا رآه.
          وأقول: فعلى هذا لا تكون رواية مروان مرسل صحابي، كما قاله الكرماني ومن تبعه، وهو حجة على الصواب، بل يقال: ضمت لرواية المسور التي هي الأصل للتقوية، والتأكيد.
          وقوله: (خَرَجَ النَّبِيُّ): ولأبوي ذر، والوقت:<رسول الله> (صلعم..إلخ): مقول عروة ظاهراً؛ ولكنه في الحقيقة مقول المسور ومروان، بدليل ما سيأتي في قصة الحديبية بلفظ: عن عروة، عن مروان والمسور قالا: خرج النبي، الحديث؛ ولأنهما اللذان حضرا القصة ولو على سبيل التغليب
          (زَمَنَ): متعلق بـ(خرج)، وللأصيلي: <في زمن> (حُدَيْبِيَةَ): وللهروي، والأصيلي، وابن عساكر: <الحديبية>: بأل التي للمح، بتخفيف الياء الثانية كما قاله الشافعي كأهل العراق، وبتشديدها عند أكثر المحدثين وأهل المدينة قرية على مرحلة من مكة، سميت ببئر هناك، وقيل: بشجرة حدباء هنالك فصغرت، ثم سمي بها، وكانت تحتها بيعة الرضوان
          (فَذَكَرَ): أي: عروة (الحَدِيثَ): يعني الآتي تاماً مسنداً _إن شاء الله_ في قصة الحديبية ومنه: (وَمَا تَنَخَّمَ النَّبِيُّ صلعم نُخَامَةً، إِلاَّ وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ):
          قال في ((الفتح)): وغفل الكرماني فظن أنه حديث آخر فجوز أن يكون الراوي ساق الحديثين سوقاً واحداً أو يكون أمر التنخم وقع بالحديبية، ولو راجع الموضع الذي ساق المصنف فيه الحديث تاماً، لظهر له الصواب. انتهى.
          قال العيني: وهو: إما عطف على (خرج)، وإما على الحديث.
          وأقول: لا يخفى ما في عطفه على (خرج).
          و(تنخم): بمعنى: تنخع؛ أي: رمى بنخاعته، والنُخامة _بالميم وبالعين بضم النون فيهما_ بمعنى، على ما في (المجمل) و((الصحاح))، وقيل: بالميم: ما يخرج من الفم، وبالعين: ما يخرج من الحلق.
          وقال الكرماني: قال بعض الفقهاء: النخامة: هو الخارج من الصدر، والبلغم: هو النازل من الدماغ، وبعضهم عكس.
          وقال في ((القاموس)): النُّخاعة _بالضم_ النخامة، وما يخرج من الصدر، أو ما يخرج من الخيشوم.
          ومعنى: (ما تنخم): أي: ما رمي بنخامة زمن الحديبية، أو مطلقاً في حال من الأحوال، إلا في حال وقوعها في كف رجل منهم لمبادرتهم، لأخذها للتبرك بها فلذا قال: (فَدَلَكَ): بالدال المهملة؛ أي: الرجل منهم (بِهَا): أي: بنخامة النبي صلعم (وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ): واستظهر الكرماني: التقييد، والعيني: الإطلاق.
          وأقول: مقتضى المقام التقييد، وإن كان للإطلاق وجه سديد.