الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب أبوال الإبل والدواب والغنم ومرابضها

          ░66▒ (بَابُ أَبْوَالِ الإِبِلِ وَالدَّوَابِّ وَالغَنَمِ): جمع الأبوال؛ لأنه لم يرد ذكر حكم بول الإبل فقط، وإن لم يذكر المصنف إلا حكم بول الدواب، والصلاة في مرابض الغنم، وسيأتي الاعتذار عن المتروك.
          والإبِل: بكسر الباء: اسم جمع لا واحد له من لفظه وهو مؤنث وقد تسكن الباء تخفيفاً، والجمع: آبال، والدواب: جمع دابة، وهي لغة: كل ما يدب على الأرض، وفي العرف العام: اسم لذوات الأربع، وفي العرف الخاص: اسم لذوات الحوافر من الخيل، والبغال، والحمير، وعلى هذا يحمل كلام الكرماني بل كلام ((الفتح)) والكرماني مصرح بذلك حيث قالا: الوجه: أن المراد منه ههنا معناه العرفي: وهو ذوات الحوافر، فلا يتناول الإبل والغنم، فافهم.
          وحينئذٍ فلا يرد قول العيني معترضاً عليه: ليس معناه العرفي منحصراً فيه، بل يطلق على كل ذي أربع، وعطف (الدواب) على (الإبل) يحتمل أنه من عطف العام على الخاص، قاله في ((الفتح)).
          وأقول: ويحتمل أنه من عطف المغاير، بناء على إرادة العرف الخاص، كما يشير إليه كلام ((الفتح)) مع أنه ظاهر.
          إذا علمت ذلك ظهر لك اندفاع قول العيني معترضاً عليه: هو كذلك، فأي شيء ذكر الاحتمال فيه، وفيه عطف الخاص على العام، وهو عطف (الغنم) على (الدواب). انتهى.
          مع أنه يرد على العيني أنه يحتمل في عطف (الغنم): المغايرة أيضاً، بناء على العرف الخاص، أو أن المعطوف عليه الأول، وهو المشهور فيما إذا تعددت متعاطفات، فافهم.
          وقال أيضاً العيني: ولم يذكر البخاري في هذا الباب إلا حديثين:
          أحدهما: يفهم منه حكم بول الإبل.
          والآخر: يفهم منه جواز الصلاة في مرابض الغنم، فعلى هذا ذكر (الدواب) لا فائدة فيه. انتهى.
          وأقول: قد أشار إلى حكم الدواب كما في ((الفتح)) سياق أثر أبي موسى في صلاته في دار البريد؛ لأنها مأوى الدواب التي تركب، ويحتمل أن يكون أشار إلى حديث، ليس على شرطه كما هو عادته، فتأمل.
          والغنم: اسم جنس جمعي كالإبل، يقع على المذكر، والمؤنث، وإذا صغرتها قلت: غنيمة؛ لأن أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها إذا كانت لغير الآدميين، فالتأنيث لازم لها، قاله الكرماني، ومثل ذلك الإبل، وتصغيره: أُبيله، قاله النووي (وَمَرَابِضِهَا): أي: الغنم؛ لأنها أقرب مذكور؛ ولأن الصلاة مكروهة في معاطن الإبل جمع مَربِض _بفتح الميم وكسر الموحدة وبالضاد المعجمة_ من ربض بالمكان من باب: ضرب: أقام به وهي للغنم كالمعاطن للإبل، وربوض الغنم كبروك الإبل، وربَض الغنم _بفتح الموحدة_ مأواها، وجعل / ((الفتح)) المرابض جمع مِربَض: _بكسر أوله وفتح الموحدة_ غير مناسب هنا، ومن ثم غلط العيني، وقد يتكلف لتصحيحه، بأن مكان الربوض يمكن جعله آلة تجوزاً كما قالوا في المرقاة والمنبر، فتأمل.
          (وَصَلَّى أَبُو مُوسَى): هو عبد الله بن قيس الأشعري وصل هذا التعليق أبو نعيم شيخ المصنف في كتاب (الصلاة) له بقوله: حدثنا الأعمش، عن مالك بن الحارث _هو السلمي الكوفي_ عن أبيه قال: صلى بنا أبو موسى في دار البريد، وهناك سرقين الدواب، والبرية على الباب فقالوا: لو صليت على الباب فقال: ههنا وثم سواء.
          (فِي دَارِ البَرِيْدِ): بفتح الموحدة وكسر الراء وبالدال المهملة بعد التحتية الساكنة، والجمع: برد: موضع تنزله الرسل. وقال في ((الصحاح)): البريد: المرتب والرسول، واثنا عشر ميلاً. انتهى.
          والمراد بدار البريد هنا: موضع بالكوفة، كانت الرسل تنزل فيه إذا بعثت من الخلفاء إلى الأمراء، وكان أبو موسى أميراً على الكوفة من قبل عمر وعثمان، وكانت الدار في طرف البلد فلذا كانت البرية إلى جانبها. وقال المطرزي: البريد في الأصل: الدابة المرتبة للرباط، ثم سمي به الرسول الراكب عليها، ثم سميت به المسافة المشهورة.
          وأقول: يمكن حمل ما في ((الصحاح)) عليه، فتأمل.
          فائدة: ذكر البخاري في ((تاريخه)) أن همدان بريد عمر، يروي عن عمر، وله أثر ذكره المصنف عن عمر معلقاً كما سيأتي
          (وَالسِّرْقِينِ، وَالبَرِّيَّةُ إِلَى جَنْبِهِ): بالجر للسرقين عطف على (البريد) أو (الدار)، وقد يروى بالرفع، قاله الكرماني.
          وأقول: وجه الرفع أنه مبتدأ، و(البرية): عطف عليه، وحينئذ فقوله: (إلى جنبه): خبر عنهما، وضميره لأبي موسى، وأما على جر (السرقين): فالبرية مبتدأ و(إلى جنبه): خبره، والجملة حالية أيضاً.والسِرقين _بكسر السين المهملة لا بالفتح_ لأنه ليس في الكلام فعليل مفتوحاً، لكن حكى فيه ابن سيدة الفتح.
          وقال في ((المصابيح)): (السرقين): بقاف، ويقال: بجيم وتفتح سينه فيهما وتكسر، وهو: فارسي معرب، ويقال له: السرجين _بالجيم_ وأصله: بجيم قريبة من الكاف، وهو روث الدواب مطلقاً. و(البَرية): بفتح الموحدة وتشديد الراء والياء: الصحراء، منسوبة إلى البر، والجمع: براري، والجنب والجانب، والجنبة بمعنى: الناحية
          (فَقَالَ): أي: أبو موسى جواب لمقدر دل عليه ما في رواية ابن أبي شيبة فقالوا: تصلي ههنا والبرية إلى جنبك (هَهُنَا): إشارة إلى المكان القريب، وهو دار البريد، وهي مصلاه (وَثَمَّ): بفتح المثلثة: إشارة إلى المكان البعيد، وهو (البرية). وقوله: (سَوَاءٌ): بالمد وفتح السين، بمعنى: مستو؛ أي: هذان الموضعان مستويان في صحة الصلاة فيهما، كذا قدره العيني، وجعل اسمي الإشارة اسم موضع، لكن يرد عليه أنهما لا يتصرفان كما اعترف هو به في (ثم) حيث قال: وهو ظرف لا يتصرف، فلذا غلط من أعربه مقولاً لـ{رَأَيْتَ} في: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا} [الإنسان:20].
          وممن صرح به في هنا ابن مالك في (التسهيل) وغيره، والذي يظهر لي: أن (سواء) خبر مبتدأ محذوف على حد سواء على أقمت، أم قعدت؛ أي: الأمران من الصلاة في هذا المكان، وفي ذلك المكان مستويان في صحتها فيهما، فافهم.
          ومراد المؤلف من هذا الأثر: الاستدلال به على طهارة بول ما يؤكل لحمه؛ أي: وروثه أو أعم من المأكول؛ لأن دار البريد يربط فيها المأكول وغيره، و(السرقين): أيضاً أعم، وسيأتي نقل مذاهب الأئمة فيهما.
          واعترض بأنه لا حجة فيه له؛ لأنه من فعل أبي موسى، وقد خالفه غيره من الصحابة كابن عمر وغيره، فيحتمل أنه لا يرى الطهارة من النجاسة شرطاً في صحة الصلاة كما قالوه في قصة الصحابي الذي صلى بعد أن جرح، وظهر منه دم كثير، وقياس غير المأكول على المأكول غير ظاهر لاتجاه الفرق بينهما، لو ثبت أن بول المأكول وروثه طاهران، فالتمسك بعموم الأحاديث التي منها ما رواه ابن خزيمة _وصححه_ وغيره عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: (استنزهوا من البول؛ فإن عامة عذاب القبر منه) أولى لظهوره في تناول جميع الأبوال، فيجب اجتنابها لهذا الوعيد الشديد.
          واعترض أيضاً بجواز أن أبا موسى صلى فيما ذكر على حائل طاهر، ولذا قال التيمي وغيره: ليس فيه دليل على طهارة أرواث الدواب وأبوالها؛ لأنه يمكن أن يكون صلى فيها على ثوب يبسطه، وقد قال الفقهاء: لو بسط بساطاً مثلاً طاهراً على موضع نجس وصلى عليه، لكانت صلاته صحيحة.
          وأجيب: بأن الأصل عدم الحائل، لاسيما وقد رواه ابن أبي شيبة في ((مصنفه)): بلفظ: فصلى بنا على روث وتبن فقلنا: تصلي ههنا، والبرية إلى جنبك؟ / فقال: البرية وههنا سواء، ورواه سفيان الثوري في ((جامعه)) عن الأعمش بسنده بلفظ: صلى بنا أبو موسى على مكان فيه سرقين.
          قال في ((الفتح)): وهذا ظاهر في أنه بغير حائل، ومثله الأول بل الأخير.
          ورده العيني فقال: الظاهر أنه كان بحائل؛ لأن شأنه أن يحترز عن الصلاة على السرقين. انتهى.
          وأقول: بل الظاهر من قوله: (هاهنا وثم سواء) في جواب اعتراضهم عليه: أنه لم يحترز، والحالة ما ذكر، فتأمل. ولا ينافي هذا ما تقدم أنه كان يشدد في البول؛ لأن المراد به _كما مر_ بول الناس.
          ثم قال في (الفتح): وقد روى سعيد بن منصور بسند صحيح، عن سعيد بن المسيب وغيره: أن الصلاة على الطنفسة محدث.
          واعترضه العيني، بأن كون الصلاة على الطنفسة محدث لا يستلزم أن يكون على الحصير ونحوه، كذلك لاحتمال أن أبا موسى صلى في هذه الحالة على نحو حصير، وهو الظاهر؛ لأن الطنفسة لم يكونوا يستعملونها في الصلاة لاستعمال المسرفين لها باعتبار أن لها خملاً لطيفاً فكرهوا ذلك في الصدر الأول، واكتفوا بالسجاجيد تواضعاً، بل كان أكثرهم يصلي على الحصير، بل كان الأفضل عندهم الصلاة على التراب تواضعاً ومسكنة. انتهى، فتأمل.