الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب ما جاء في الوضوء

          ░1▒ (بَابُ مَا جَاءَ فِيْ قَوْلِ اللهِ ╡: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ}الآيَةَ): هكذا وقع في نسخ صحيحة، وقال العيني: إنها رواية الأصيلي، لكن بتكملة الآية إلى: <{الْكَعْبَينِ}>.
          والذي في ((الفتح)): أن رواية الأصيلي: <ما جاء في قول الله> دون ما قبله، ولكريمة: <باب في الوضوء، وقول الله تعالى...إلخ>. وفي فرع اليونينية كأصلها: <ما جاء في الوضوء، وقال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} إلى: {الْكَعْبَينِ}>.
          وفي نسخة شرح عليها الكرماني عقب البسملة: <كتاب الطهارة، باب ما جاء في الوضوء، وقول الله ╡: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ} [المائدة:6] إلى قوله: {إِلَى الْكَعْبَينِ}>.
          على أن نسخ الكرماني وغيره مختلفة وهي أنسب؛ لأن الطهارة تشمل: الوضوء، والغسل، والتيمم، وإزالة النجاسة، والكتاب الذي يذكر فيه نوع من الأنواع ينبغي أن يترجم بنوع عام حتى يشمل الجميع، ثم يترجم بالأمر الخاص.
          واعلم أن الأحكام الشرعية شرعت لمصالح العباد تفضلاً وإحساناً وهي إما دينية تتعلق بالعبادات، ورتبها على ترتيب حديث ((الصحيحين)): (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله)، الحديث ما عدا الشهادتين، فإن الكلام عليهما مذكور في علم العقائد.
          وإما دنيوية تتعلق بالمبايعات والمناكحات ونحوهما، ولا ريب / أن الدينية أشرف؛ لأنها المقصودة من خلق العالم، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، ولأنها موجبة لنيل السعادات الأبدية، والصلاة مقدمة على سائر العبادات؛ لأنها أفضلها، ولأنها تتكرر كل يوم خمس مرات، وهي متوقفة على الوضوء لأنه شرط، وهو مقدم على المشروط.
          والوُضُوء: بضم الواو: الفعل، وهو غسل الأعضاء الثلاثة، ومسح الرأس، وبفتحها: الماء الذي يتوضأ به، وهذه اللغة أشهر لغاته، ونقلها ابن الأنباري عن الأكثرين.
          واللغة الثانية: بفتح الواو فيهما، قاله جماعة منهم الخليل قال: والضم لا يعرف الثالثة بالضم فيهما وهي غريبة ضعيفة، حكاها صاحب ((المطالع)). وتجري هذه اللغات في الطهور.
          والوضوء: من الوضاءة، وهي الحسن والنظافة، سمي به؛ لأنه ينظف المتوضئ، ويحسنه حِسَّاً ومَعْنَىً، والمراد بالوضوء: ذكر أحكامه، وشرائطه، وصفاته، ومقدماته.
          والطَّهارة _بفتح الطاء_ في اللغة: مصدر طَهُرَ الشيء بضم الهاء وفتحها وهو أعلى، ومعناها: النظافة، وشرعاً: فعل ما يستباح به الصلاة من وضوء، وغسل، وتيمم، وإزالة نجاسة، وما في معناهما أو على صورتها.
          واختلف في موجب الوضوء فقيل: يجب بالحدث وجوباً موسعاً قيل: وعليه يتمشى نية الفرضية قبل الوقت، ورد: بأن المراد به لزوم الإتيان به، وإقامة طهارة الحدث المشروطة للصلاة يعتد به، وشروط الشيء تسمى فروضاً وواجبات، وإن لم يأثم بتركها، ولهذا يصح من الصبي.
          واختلف في الحدث الأصغر: هل يحل جميع البدن كالجنابة حتى يمنع من مس المصحف بظهره مثلاً، أو يختص بالأعضاء الأربعة؟.
          والأصح: الثاني، ومع ذلك فلا يجوز مس المصحف بغيرها؛ لأن شرط جواز مسه الطهارة عن الحدث وهي غير موجودة.
          وقيل: بالحدث والقيام إلى الصلاة معاً، وصححه النووي في ((التحقيق))، و((المجموع))، و((شرح مسلم)).
          وقيل: بالقيام إلى الصلاة فقط، ويدل له ما رواه أصحاب السنن من حديث ابن عباس عن النبي صلعم أنه قال: (إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة).
          وأشار المؤلف بقوله: (باب ما جاء في قول الله: {إِذَا قُمْتُمْ}...الخ) إلى بيان اختلاف العلماء ▓ من أنه هل فيه تقدير نحو: محدثين، أو وأنتم محدثون، أو الأمر على ظاهره مطلقاً؟.
          قال: بالأول الأكثرون حملاً للأمر على ظاهره من الوجوب، وقال بالثاني جماعة، لكنه في حق المحدث فرض، وفي حق غيره مندوب.
          وقيل: كان أولاً فرضاً مطلقاً، ثم نسخ فصار مندوباً في حق المتطهر، لكن إذا صلى به صلاة ما، واستدلوا له بما رواه أحمد وأبو داود من طريق عبد الله بن عمر بن الخطاب: أن أسماء بنت زيد بن الخطاب حدثت أباه عبد الله بن عمر، عن عبد الله بن حنظلة الأنصاري: (أن رسول الله صلعم أمر بالوضوء لكل صلاة طاهراً كان أو غيره، فلما شق عليه وضع الوضوء إلا من حدث).
          قال القسطلاني تبعاً للبيضاوي: فهو ضعيف؛ لقوله ◙: (المائدة من آخر القرآن نزولاً: فأحلوا حلالها وحرموا حرامها). انتهى.
          وأقول: الآية مطلقة أو مجملة، والحديث مقيد أو مفصل، فيحمل المطلق أو المجمل على المقيد أو المفصل عند من يرى ذلك، وحينئذٍ فلا يحكم عليه بالضعف، ثم رأيت الشهاب الخفاجي قال في ((حاشيته)): وحديث المائدة لا يعارضه؛ لأن العراقي قال: لم أجده مرفوعاً، وقد مر أن آخر ما نزل: براءة. انتهى.
          ويدل لذلك أيضاً: ما رواه مسلم من حديث بريدة: كان النبي صلعم يتوضأ عند كل صلاة، فلما كان يوم الفتح صلى الصلوات بوضوء واحد، فقال له عمر: إنك فعلت شيئاً لم تكن تفعله، قال: (عمداً فعلته)؛ أي: لبيان الجواز.
          وقال في ((الكشاف)): وروي عنه ◙: كان يتوضأ لكل صلاة، فلما كان يوم الفتح مسح على خفيه، فصلى الصلوات الخمس بوضوء واحد، فقال له عمر: صنعت شيئاً لم تكن تصنعه؟ فقال: (عمداً فعلته يا عمر) يعني: بياناً للجواز.
          وافتتح المؤلف بهذه الآية للتبرك، وإلا فحق الدليل أن يؤخر عن المدلول، أو لأصالتها في استنباط مسائل هذا الباب منها، ولنتكلم على هذه الآية إجمالاً، فنقول:
          ({يا}): حرف نداء للبعيد / ولو حكماً، وقيل: مشتركة بين البعيد والقريب، ورجحه ابن الحاجب، وقيل: مشتركة بينهما وبين المتوسط، وأي: نكرة مقصودة مبنية على الضم يؤتى بها وصلة لنداء ما فيه أل، ولذا يتعين فيه إتباعه للفظها خلافاً للمازني، فإنه جوز فيه أيضاً النصب إتباعاً لمحلها.
          وزعم الأخفش: أن أيا هذه هي الموصولة حذف صدر صلتها ويقدر في نحو: يا أيها الرجل: يا من هو الرجل، وفي نحو: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} من هم الذين آمنوا.
          و({الَّذِينَ}): موصول اسمي موضوع للجمع، وليس بجمع اصطلاحاً بل لغة، وعليه حمل قول ابن مالك:
جمع الذي الأولى الذين مطلقاً                     ..................
          وكذا قول بعض شراح ((الهداية)): الذين: جمع الذي، فليس بصادر عن غير تحقيق كما قال العيني.فالذين: في محل رفع على أنه بدل من أي أو عطف بيان منها أو صفة لها بحسب اللفظ الظاهر، وهو في الحقيقة صفة للناس، أو القوم المقدر الواقع في الحقيقة تابعاً لأي، وعلى التوجيه الأول يحمل قول الشيخ حافظ الدّين النسفي: {الَّذِينَ آمَنُواْ}: صفة لأي، وحينئذ فلا يرد عليه اعتراض قوام الدين الأتقاني بأن صفة أي هو المقدر من القوم أو الناس إلا أن يريد بحسب التحقيق، فيرد اعتراضه.
          وأما قول العيني: المجموع كله هو صفة؛ أي: لا المقدر وحده، ولا الموصول وحده، فلهذا سقط اعتراض قوام الدين الأتقاني على حافظ الدين النسفي، فلا يخفى ما فيه لمن تأمله
          ({إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ}): {إذا}: شرطية ولذا دخلت الفاء في جوابها. وقال البيضاوي: أي: إذا أردتم القيام كقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ} [النحل:98] عبر عن إرادة الفعل بالفعل السبب عنها للإيجاز، والتنبيه على أن من أراد العبادة ينبغي أن يبادر إليها بحيث لا ينفك الفعل عن الإرادة، أو إذا قصدتم الصلاة؛ لأن التوجه إلى الشيء والقيام إليه قصد له. انتهى.
          وقال في ((الفتح)): واستنبط بعض العلماء من قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ}: إيجاب النية في الوضوء؛ لأن التقدير: إذا أردتم القيام إلى الصلاة فتوضؤوا لأجلها، ومثله قولهم: إذا رأيت الأمير فقم؛ أي: لأجله
          ({فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}): جمع وجه، ويجمع على أوجه أيضاً؛ أي: أجروا الماء عليها، فلا يكفي مجرد المسح، ولا يلزم الدلك خلافاً لمالك، والجمع هنا، وفيما سيأتي من مقابلة الجمع بالجمع، فتقتضي القسمة على الآحاد، فافهم.
          ({وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ} [المائدة:6]): أي: مع المرافق كقوله تعالى: {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [هود:52]، ومن ثم كان الجمهور على دخول المرفقين في المغسول وذلك؛ لأن الأصل في إلى: عدم دخول الغاية في المغيا، وفي حتى: الدخول، وذلك عند عدم قرينة تدل على الدخول أو عدمه، وإلا فالمعول عليها.
          قال في ((الكشاف)): وإلى تفيد معنى الغاية مطلقاً، فأما دخولها في الحكم وخروجها، فأمر يدور مع الدليل. انتهى.
          ثم قال: {إِلَى الْمَرَافِقِ}و{إِلَى الْكَعْبَينِ}: لا دليل فيه على أحد الأمرين، فأخذ كافة العلماء بالاحتياط، فحكموا بدخولها في الغسل، وأخذ زفر وداود بالمتيقن، فلم يدخلاهما، وعن النبي ◙: (أنه كان يدير الماء على مرفقيه).
          وقيل: دل على دخولهما في الغسل الإجماع كما استدل به الشافعي في (الأم)، وفعله ◙ فيما روى مسلم: أن أبا هريرة توضأ فغسل وجهه، فأسبغ الوضوء، ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد، ثم اليسرى حتى أشرع في العضد، الحديث، وفيه: ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلعم يتوضأ.
          فثبت غسله عليه الصلاة والسلام لهما، وفعله بياناً للوضوء المأمور به، ولم ينقل تركه ذلك ودلت عليه الآية أيضاً بجعل اليد التي هي حقيقة إلى المنكب، وقيل: إلى الكوع مجازاً إلى المرافق، مع جعل {إِلَى} للغاية الداخلة في المغيا، أو للمعية كما في: {مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللهِ} [آل عمران:52]، أو بجعل اليد باقية على حقيقتها إلى المنكب مع جعل {إِلَى} غاية للغسل، أو الترك المقدر كما قال بكل منهما جماعة، والمعنى: اغسلوا أيديكم واتركوا إلى المرافق.
          ({وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة:6]): قال البيضاوي: الباء مزيدة وقيل: للتبعيض كقولك: مسحت المنديل ومسحت بالمنديل، وذلك؛ لأنها تدل على تضمين الفعل معنى الإلصاق، فكأنه قيل: وألصقوا المسح برؤوسكم، وذلك لا يقتضي الاستيعاب بخلاف ما لو قيل: وامسحوا رؤوسكم، فإنه كقوله: {فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6].
          وقال في ((الكشاف)): المراد: إلصاقه المسحة بالرأس وماسح بعضه ومستوعبه بالمسح كلاهما ملصق بالمسح برأسه، وقد أخذ مالك بالاحتياط، فأوجب الاستيعاب أو أكثره على اختلاف الرواية، وأخذ الشافعي باليقين فأوجب أقل ما يقع عليه اسم المسح، وأخذ أبو حنيفة ببيان رسول الله ◙، وهو ما روي: (أنه مسح على ناصيته)، وقدر بربع الرأس. انتهى.
          وأقول: وقال أحمد / أيضاً: بوجوب مسح جميع الرأس
          ({وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكَعْبَيْنِ} [المائدة:6]): قال البيضاوي: نصبه نافع وأبو عمرو وحفص والكسائي ويعقوب عطفاً على {وُجُوهَكُمْ}، ويؤيده السنة الشائعة، وعمل الصحابة، وقول أكثر الأئمة، والتحديد، إذ المسح لم يحد، وجره الباقون على الجوار، ونظيره كثير في القرآن والشعر كقوله تعالى: {عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [هود:26] و{حُورٍ عِينٍ} [الواقعة:22] بالجر في قراءة حمزة والكسائي، وقولهم: جحر ضب خرب.
          وللنحاة باب في ذلك، وفائدته: التنبيه على أنه ينبغي أن يقتصد في صب الماء عليها، وتغسل غسلاً يقرب من المسح، وفي الفصل بينه أخواته إيماء إلى وجوب الترتيب، وقرئ بالرفع على: وأرجلكم مغسولة. انتهى.
          وأقول: أشار بقوله ونظيره كثير...الخ إلى الرد على من قال: إنه شاذ بابه الشعر مع الكثير منه في النعت، ويقل في التأكيد، ويمتنع مع العطف؛ لأن حرفه مانع من الجوار. انتهى.
          فمنعه؛ لأنه كثير في كلام العرب نظماً ونثراً، ولا يختص بالنعت والتأكيد، إذ قد ورد في العطف كما أثبته النحاة حتى عقدوا له باباً على حدته لكثرته، ولما فيه من المشاكلة أيضاً تعدوا على اعتباره في الإعراب إلى التثنية والتأنيث وغير ذلك، فافهم.
          وقال في ((الكشاف)): وقرأ الحسن: ▬وأرجلُكم↨: بالرفع بمعنى: وأرجلكم مغسولة، أو ممسوحة إلى الكعبين. وقال قبله: وعن علي: أنه أشرف على فتية من قريش، فرأى في وضوئهم تجوزاً فقال: ويل للأعقاب من النار، فلما سمعوا جعلوا يغسلونها غسلاً، ويدلكونها دلكاً.
          وعن ابن عمر: كنا مع رسول الله صلعم فتوضأ قوم وأعقابهم بيض تلوح، فقال: (ويل للأعقاب من النار)، وفي رواية جابر: (ويل للعراقيب).
          وعن عمر: أنه رأى رجلاً يتوضأ، فترك باطن قدميه، فأمره أن يعيد الوضوء، وذلك للتغليظ عليه، وعن عائشة: لأَنْ تُقَطَّعَا أحب إلي من أن أمسح على القدمين بغير خفين، وعن عطاء: والله ما علمت أن أحداً من أصحاب رسول الله صلعم مسح على القدمين.
          وقد ذهب بعض الناس إلى ظاهر العطف فأوجب المسح، وعن الحسن: أنه جمع بين الأمرين،
          وعن الشعبي: نزل القرآن بالمسح والغسل سنة. انتهى.
          وأقول: نقل الأسنوي: أنه ذهب جمهور الشيعة إلى وجوب المسح لقراءة الجر.
          وأجيب: بأن الجر للجوار.
          وذهب محمد بن جرير الطبري من الشيعة إلى التمييز بين الأمرين عملاً بين القراءتين، ويدفعه ما ورد من: (أسبغوا الوضوء ويل للأعقاب من النار).
          تنبيه: اشتملت الآية _كما قاله البيضاوي_ على سبعة أمور كلها مثنى: طهارتان: أصل وبدل، والأصل اثنان: مستوعب وغير مستوعب، وغير المستوعب باعتبار الفعل: غسل ومسح، وباعتبار المحل: محدود وغير محدود، وأن آلتهما: مائع وجامد، وموجبهما: حدث أصغر وأكبر، وأن المبيح للعدول إلى البدل: مرض أو سفر، وأن الموعود عليهما: تطهير الذنوب وإتمام النعمة. انتهى.
          وأقول: فهي أربعة عشر أمراً، والمراد: تمام الآية إلى: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة:6] وتمسك بهذه الآية من قال: إن الوضوء أول ما فرض بالمدينة، فأما قبل ذلك: فنقل ابن عبد البر اتفاق أهل السير على أن غسل الجنابة فرض على النبي صلعم بمكة كما افترضت الصلاة، وأنه لم يصلِّ قط إلا بوضوء. قال: وهذا مما لا يجهله عالم.
          وقال الحاكم في ((المستدرك)): أهل السنة بهم حاجة إلى الرد على من زعم أن الوضوء لم يكن قبل نزول آية المائدة، ثم ساق حديث ابن عباس: دخلت فاطمة على النبي وهي تبكي فقالت: هؤلاء الملأ من قريش قد تعاهدوا ليقتلوك، فقال: (ائتوني بوضوء) فتوضأ.
          وهذا يصلح رداً على من أنكر وجود الوضوء قبل الهجرة لا من أنكر وجوبه حينئذٍ.
          وجزم ابن الجهم المالكي بأنه كان قبل الهجرة مندوباً، وجزم ابن حزم بأنه لم يشرع إلا بالمدينة، وردَّ عليهما بما أخرجه ابن لهيعة في ((المغازي)) التي يرويها عن أبي الأسود يتيم عروة عنه: أن جبريل علم النبي صلعم الوضوء عند نزوله عليه بالوحي، وهو مرسل، ووصله أحمد من طريق ابن لهيعة، وأخرجه ابن ماجه من رواية رشدين بن سعد، وأخرجه الطبراني في (الأوسط) من طريق الليث عن عقيل موصولاً، ولو ثبت لكان على شرط الصحيح، لكن المعروف رواية ابن لهيعة
          (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ): أي: البخاري (وَبَيَّنَ): بتشديد التحتية وللأصيلي: <قال وبين> (النَّبِيُّ صلعم): أي: في حديث ابن عباس الآتي موصولاً في باب: أن النبي صلعم توضأ مرة مرة (أَنَّ فَرْضَ الوُضُوءِ): أي: المجمل في آية الوضوء (مَرَّةٌ مَرَّةٌ): بالرفع فيهما وهو الرواية في غير الفرع خبر (أن)، والتكرار إما للتأكيد، أو لإرادة التفصيل؛ أي: مرة في الوجه، ومرة في اليدين، ومرة في الرأس، ومرة في الرجلين، فالتفصيل بالنظر لأجزاء الوضوء، أو المعنى: فرض الوضوء / في كل وضوء، مرة في هذا الوضوء، ومرة في وضوء آخر، فالتفصيل بالنظر إلى جزئياته، قاله الكرماني.
          وقال البرماوي: الأول من التفصيلين هو الأرجح، والثاني: ضعيف، ويجوز النصب على أنه حال سد مسد الخبر على حد قراءة علي: ▬ونحن عصبةً↨؛ أي: يفعل مرة، أو على أنه مفعول مطلق؛ أي: فرض الوضوء غسل الأعضاء غسلاً مرةً، أو على لغة من ينصب الجزئين بإن كقوله: إن حراسنا أسداً.
          وجوز الكرماني أيضاً: نصبه على الظرفية؛ أي: الظرفية؛ أي: فرض الوضوء ثابت في الزمان المسمى بالمرة.قال البرماوي: لا يخفى ما فيه من النظر. انتهى
          (وَتَوَضَّأَ): أي: النبي صلعم مما سيأتي للمؤلف موصولاً في باب الوضوء (مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ): بالتكرار لأبي ذر، ولغيره: <مرتين> بلا تكرار (وَثَلَاثاً ثَلَاثاً): بالتكرار لأبوي ذر والوقت والأصيلي، ولغيرهم مرة واحدة؛ أي: وتوضأ ◙ ثلاث مرات.
          قال في ((الفتح)): والبيان المذكور يحتمل أن يشير به إلى ما رواه بعد عن ابن عباس: (أن النبي صلعم توضأ مرة مرة)، وهو بيان بالفعل لمجمل الآية، إذ الأمر يفيد طلب إيجاد الحقيقة، ولا يتعين لعدد، فبين الشارع أن المرة الواحدة للإيجاب، وما زاد عليها للاستحباب.
          وأما حديث أبي بن كعب: أن النبي دعا بماء فتوضأ مرة مرة وقال: (هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به) ففيه بيان بالقول والفعل معاً، لكنه حديث ضعيف، أخرجه ابن ماجه، وله طرق أخرى كلها ضعيفة. انتهى.
          وأقول: يجوز أنه صار حسناً لغيره لتعدد طرقه، ولم يشتد ضعفها، فاعرفه.
          وقال الكرماني: وغرضه من قوله: (وبين النبي صلعم أن فرض الوضوء مرة): الإشارة إلى أن الأمر من حيث هو لإيجاد حقيقة الشيء المأمور به لا مقتضياً للمرة ولا للتكرار، بل محتمل لهما، فبين النبي ◙ أن المراد منه المرة حيث غسل مرة واحدة، واكتفى بها، فلو لم يكن الفرض إلا مرة واحدة لم يجز الاجتزاء بها، والغرض من (توضأ مرتين وثلاثاً): الإشارة إلى أن الزيادة عليها مندوب إليها؛ لأن فعل الرسول صلعم يدل على الندب غالباً إذا لم يكن دليل يدل على الوجوب.
          (وَلَمْ يَزِدْ): أي: النبي صلعم (عَلَى ثَلَاثٍ): بلا تاء لغير لأبي ذر وابن عساكر ولهما بها، والقياس الأول؛ لأن المعدود مؤنث فإما أَوَّلَه بأشياء وإما لأنه محذوف، فافهم.
          قال في ((الفتح)): أي: لم يأتِ في شيء من الأحاديث المرفوعة في صفة وضوء صلعم أنه زاد على ثلاث بل ورد عنه أنه ذم من زاد عليها، وذلك فيما رواه أبو داود وغيره من طريق عمرو بن شعيب: أن النبي صلعم توضأ ثلاثاً ثلاثاً ثم قال النبي: (من زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم) وسنده جيد، لكن عده مسلم في جملة ما أنكر على عمرو بن شعيب؛ لأن ظاهره ذم النقص من الثلاث مع أنه ورد في الأحاديث أنه توضأ مرة ومرتين، وأجيب: بأنه أمر نسبي.
          وقيل: في الحديث حذف؛ أي: من نقص من واحدة، ويدل له ما رواه نعيم بن حماد مرفوعاً: (الوضوء مرة ومرتين وثلاثاً فإن نقص من واحدة أو زاد على ثلاث فقد أخطأ) وهو مرسل ورجاله ثقات.
          وأجيب: بأن الرواة لم يتفقوا على ذكر النقص في الحديث، بل أكثرهم اقتصر على قوله: (فمن زاد) كما رواه ابن خزيمة وغيره.
          نعم: أخذ بعض العلماء بظاهر الحديث _كما نقله أبو حامد الإسفرائني_ فقال: لا يجوز النقص عن الثلاث، ورد بأنه محجوج بالإجماع على خلافه، وأما قول مالك في (المدونة): لا أحب الواحدة إلا من العالم، فليس فيه إيجاب الزيادة عليها.
          قال في ((المجموع)): واختلف أصحابنا في معنى: ((أساء وظلم)) فقيل: أساء في النقص، وظلم في الزيادة، فإن الظلم: مجاوزة الحد، ووضع الشيء في غير محله، وقيل: عكسه؛ لأن الظلم يستعمل بمعنى النقص كقوله تعالى: {آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} [الكهف:33]، وقيل: أساء وظلم فيهما، واختاره ابن الصلاح؛ لأن ظاهر الكلام. انتهى.
          وقيل: أساء في النقص عن مواضع الوضوء وظلم في الزيادة عليها
          (وَكَرَّهَ): بتشديد الراء مفتوحة أو بكسرها مخففة (أَهْلُ العِلْمِ): أي: المجتهدون منهم (الإِسْرَافَ فِيهِ): أي: في الوضوء يشير بذلك إلى نحو ما رواه ابن أبي شيبة عن هلال بن يساف _أحد التابعين_ قال: كان يقال: من الوضوء إسراف، ولو كنت على شاطئ نهر، وأخرج أيضاً نحوه عن أبي الدرداء وابن مسعود.
          وفي معناه حديث مرفوع أخرجه أحمد وابن ماجه بسند لين من حديث ابن العاصي: أن رسول الله مرَّ بسعد وهو يتوضأ فقال: (ما هذا السرف؟) قال: أفي الوضوء إسراف؟ قال: (نعم، وإن كنت على نهر / جار).
          وعطف على الإسراف: (وَأَنْ يُجَاوِزُوا فِعْلَ النَّبِيِّ: (صلعم لتفسيره، فليس المراد بالإسراف إلا المجاوزة عن فعله ◙ والثلاث فتكره الزيادة عليها كراهة تنزيه على الأصح من مذهبنا.
          قال الشافعي في (الأم): لا أحب أن يزيد المتوضئ على الثلاث، فإن زاد لم أكرهه؛ أي: لم أحرمه؛ لأن قوله: لا أحب: يقتضي الكراهة، وقيل: كراهة تحريم، وقيل: خلاف الأولى.
          وحكى الدارمي من الشافعية عن قوم: أن الزيادة على الثلاث تبطل الوضوء، كالزيادة في الصلاة، وردَّ بأنه قياس فاسد، وخطأ ظاهر، وخلاف ما عليه العلماء، وقال أحمد وإسحاق وكثيرون: لا تجوز الزيادة على الثلاث، وقال ابن المبارك: لا آمن أن يأثم، بل قال ابن مسعود _كما رواه ابن أبي شيبة عنه_ ليس بعد الثلاث شيء.
          قال في ((الفتح)): ويلزم من القول بتحريم الزيادة على الثلاث أو كراهتها: أنه لا يندب تجديد الوضوء على الإطلاق، واختلف الشافعية في القدر الذي يندب معه التجديد، فالأصح: أنه إن صلى به فرضاً أو نفلاً، وقيل: مثله سجدة التلاوة والشكر ومس المصحف، وقيل: الفرض فقط، وقيل: أعم وهو ما يقصد له الوضوء، وقيل: إذا وقع الفصل بزمن يحتمل في مثله نقض الوضوء عادة.
          وعند بعض الحنفية: أنه راجع إلى الاعتقاد، فإن اعتقد أن الزيادة على الثلاث سنة أخطأ، ودخل في الوعيد، وإلا فلا يشترط للتحديد شيء، بل لو زاد الرابعة وغيرها لا لوم لاسيما إذا قصد القربة للحديث الوارد: (الوضوء على الوضوء نور على نور) وهو حديث ضعيف. انتهى.
          وقال العيني: والصحيح أنه محمول على الاعتقاد دون نفس العمل، معناه: فمن زاد على الثلاث أو نقص عنها ولم ير الثلاث سنة، فقد ابتدع، فيلحقه الوعيد حتى لو زاد على الثلاث أو نقص، ورأى الثلاث سنة لا يلحقه هذا الوعيد؛ لأن الزيادة على الثلاث من باب الوضوء على الوضوء إذا نوى به، وأنه نور على نور على لسان النبي صلعم هذا.
          وقال العيني: وقال بعض الشارحين: قول البخاري هذا يعني: (وكره أهل العلم...إلخ): إشارة إلى نقل الإجماع على منع الزيادة على الثلاث.
          قلت: فيه نظر، فإن الشافعي قال في (الأم): لا أحب الزيادة عليها، فإن زاد لم أكرهه _إن شاء الله_
          قال الكرماني: فإن قلت: لِمَ لَمْ يذكر في هذا الباب حديث وهل كله ترجمة للباب؟
          قلت: لا نسلم أنه لم يذكر إذ (وبين) هو حديث؛ لأن المراد من الحديث أعم من قول الرسول، وكذا: توضأ أيضاً حديث، ولا شك أن كلاً منهما بيان للسنة، والمقصود منه: باب ما جاء فيه من السنة.
          نعم: ذكرهما على سبيل التعليق، ولم يوجد باب قبل لفظ: (ما جاء) في بعض النسخ، وهو ظاهر مستغن عن تكلف التوجيه.