الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب استعمال فضل وضوء الناس

          ░40▒ (بَابُ اسْتِعْمَالِ فَضْلِ وَضُوءِ النَّاسِ): بفتح الواو والمراد بفضل الوضوء: ما فضل من الماء الذي توضأ به خلي به أو لا، في طهارة وغيرها، كشرب وتمسح وعجن وطبخ به، أو المراد به: ما استعمل في فرض الطهارة عن الحدث وإن لم يأثم بتركه كصبي.
          فإن أريد الأول فلا نعلم خلافاً في جواز الطهارة إلا فيما خلت به امرأة لطهارة كاملة عند أحمد بالنسبة للرجل، وإن أرد الثاني _وهو الظاهر_ ففيه خلاف فذهب الشافعي في الجديد وهو الأصح وأحمد على الراجح: إلى أنه طاهر غير طهور؛ لأن الصحابة لم يجمعوا المستعمل في أسفارهم القليلة الماء ليتطهروا به بل عدلوا إلى التيمم، فلو كان طهوراً لجمعوه. وقد يقال: عدم جمعهم له للمشقة.
          وذهب في القديم إلى أنه طهور كالمستعمل في نفل الطهارة على الصحيح وهو مذهب مالك وأحمد في رواية اختارها ابن عقيل، وابن تيمية، وقول النخعي، والحسن البصري، والزهري، والثوري لوصف الماء بالطهور في قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا} [الفرقان:48]، المقتضي تكرار الطهارة، كضروب: لمن يتكرر منه الضرب.
          وأجيب: بأن تكرر الطهارة حاصل بما يتردد على العضو دون المنفصل جمعاً بين الدليلين.
          وعند زفر: إن كان مستعمله طاهراً فهو طهور، وإن كان محدثاً فهو طاهر غير طهور، وذهب بعضهم إلى نجاسته، وهو رواية شاذة عن أحمد وهو قول أبي يوسف.
          وحكى الشافعي في (الأم) عن محمد بن الحسن: أن أبا يوسف رجع عنه ثم رجع إليه بعد شهرين.
          وعن أبي حنيفة ثلاث روايات: فروى عنه أبو يوسف: أنه نجس مخفف، وروى عنه الحسن بن زياد: أنه نجس مغلظ، وروى عنه محمد بن الحسن وزفر وعافية القاضي: أنه طاهر غير طهور.
          وقال العيني: وهو اختيار المحققين من مشايخ ما وراء النهر، وفي (المحيط): وهو الأشهر الأقيس وقال في (المفيد): وهو الصحيح، وقال الأسبنيجابي: وعليه الفتوى، وقال قاضي خان: ورواية / التغليظ رواية شاذة مأخوذ بها، وبه يرد على ابن حزم قوله: إن الصحيح نجاسته.
          وقال القاضي عبد الحميد: أرجو أن لا تثبت رواية النجاسة عن أبي حنيفة. انتهى.
          قال ابن بطال: هذا الباب كله يقتضي فضل الماء وهو المتطاير عن المتوضئ، وقال أبو حنيفة: نجس محتجاً بأنه ماء الذنوب فيقال له: هذا مثل ضربه النبي صلعم؛ أي: كما ينغسل الدرن من الثوب كذلك يتحات الذنوب بالغسل، ثم يقال على سبيل المعارضة: ليس نجساً بل طاهر مبارك؛ لأنه الماء الذي كفَّر الله بالغسل به الخطايا، وقد رفع الله ما كانت فيه هذه البركة عن النجاسة، ثم الأمة أجمعوا على أن الإنسان غير مأخوذ عليه بما يرتش عليه من الماء المستعمل، فلو كان نجساً لوجب التحرز عنه فهو طاهر، وما لم يتغير طعمه ولا ريحه لم يؤثر الاستعمال في عينه، فلم يؤثر في حكمه، وهو طاهر لاقى طاهراً فجاز أن يسقط به الفرض مرة أخرى كالماء الذي غسل به ثوب طاهر، فهو طاهر مطهر. انتهى.
          واعترضه الكرماني في بعضه فقال: لا نسلم أنه إذا لم يؤثر في عينه لا يؤثر في حكمه وكيف لا وقد حصل له نوع من الكلال والضعف. انتهى.
          وقال في ((الفتح)): وهذه الأحاديث ترد على القائل بنجاسته؛ لأن النجس لا يتبرك به وحديث المجة وإن لم يكن فيه تصريح بالوضوء لكن توجيهه أن القائل بنجاسة الماء المستعمل إذا علله بأنه مضاف قيل له: هو مضاف إلى طاهر لم يتغير به، وكذلك الماء الذي خالطه الريق طاهر لحديث المجة، وأما من علله منهم بأنه ماء الذنوب، فيجب إبعاده محتجاً بالأحاديث الواردة في ذلك عند مسلم وغيره فأحاديث الباب أيضاً ترد عليه؛ لأن ما يجب إبعاده لا يتبرك به ولا يشرب.
          قال ابن المنذر: وفي إجماع أهل العلم على أن البلل الباقي على أعضاء المتوضئ وما قطر منه على ثيابه طاهر دليل قوي على طهارة المستعمل.
          واعترض العيني على ((الفتح)) فقال: قصده التشنيع على أبي حنيفة بهذا الرد البعيد، إذ ليس في أحاديث الباب ما يدل صريحاً على أن المراد من فضل وضوئه هو الماء الذي يتقاطر من أعضائه الشريفة، وكذا في قوله: (كادوا يقتتلون على وضوئه)، وكذا في قول السائب في قول: فشربت من وضوئه، ولئن سلمنا ذلك فأبو حنيفة لا ينكر هذا ولا يقول بنجاسته _حاشاه_ وكيف وهو يقول بطهارة فضلاته، وقدمنا أنه لم يثبت عن أبي حنيفة نجاسة الماء المستعمل ولا فتوى الحنفية عليه. انتهى.
          قال في ((الانتقاض)): الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل والبخاري لم يعين من قال بذلك فرده متوجه على من قال به كائناً من كان. انتهى.
          واعترض العيني أيضاً على ما قاله ابن المنذر فقال: قلت: المثل:
حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء
          فالماء الباقي على أعضاء المتوضئ لا خلاف لأحد على طهارته، لأن من يقول بعدم طهارته إنما يقول بالانفصال عن العضو بل عند بعضهم بالانفصال والاستقرار في مكان، وأما الذي قطر منه على ثيابه فإنما سقط حكمه للضرورة لتعذر الاحتراز عنه. انتهى.
          (وَأَمَرَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَهْلَهُ أَنْ يَتَوَضَّؤُوا بِفَضْلِ سِوَاكِهِ): فيما وصله ابن أبي شيبة والدارقطني وغيرهما عنه، ولفظ الدارقطني: كان يقول لأهله: توضؤوا من آلة أدخل فيه سواكي، وفي بعض طرقه: كان جرير يستاك ويغمس رأس سواكه في الماء ثم يقول لأهله: توضؤوا بفضله، لا يرى به بأساً وهذه الرواية مبينة للمراد.
          قال في ((الفتح)): وظن ابن التين وغيره أن المراد (بفضل سواكه): الماء الذي ينقع فيه العود من أراك وغيره ليلين فقال: يحمل على أنه لم يغير الماء، وإنما أراد البخاري أن صنيعه ذلك لا يغير الماء، وكذلك مجرداً الاستعمال لا يغير الماء فلا يمنع التطهير به. انتهى.
          ورده العيني بقوله: من له أدنى ذوق لا يقول هذا الوجه في تطابق الأثر للترجمة.
          ورد قول ابن التين أيضاً: بأنه لا مناسبة له للترجمة أصلاً؛ لأنه ليس بفضل الوضوء، وقال قبله: هذا الأثر غير مطابق للترجمة أصلاً فإن الترجمة في استعمال فضل الماء الذي ينفصل من المتوضئ، والأثر هو الوضوء بفضل السواك.
          ثم رد قول ابن المنير: مقصود البخاري: الرد على من زعم أن الماء المستعمل في الوضوء لا يتطهر به، انتهى بقوله: هذا الكلام أبعد من كلام بعضهم: فأي دليل على أن الماء في خبر السواك والمجة فضل الوضوء وليس فضل الوضوء إلا الماء الذي يفضل من وضوء المتوضئ؟.
          اعلم أن مطابقة الأثر للترجمة فيه خفاء لمطابقة الحديث لها، وقد اضطربت آراء الشراح في ذلك، وقد ذكر العيني كلامهم وتعقبه فنذكر كلامه لجمعه كلامهم وزيادة.
          فنقول: قال: هذا الأثر غير مطابق للترجمة أصلاً فإن الترجمة في استعمال فضل الماء الذي يفضل من المتوضئ، والأثر هو الوضوء بفضل السواك، ثم فضل السواك إن كان ما ذكره ابن التين وغيره / أنه الماء الذي ينقع فيه السواك، فلا مناسبة له للترجمة أصلاً؛ لأنه ليس بفضل الوضوء، وإن كان المراد الماء الذي يغمس فيه المتوضئ سواكه بعد الاستياك، فذلك لا يناسب الترجمة.
          وقال بعضهم: أراد البخاري أن هذا الصنيع لا يغير الماء وكذلك مجرد الاستعمال لا يغير الماء فلا يمنع الوضوء التطهير به.
          قلت: من له أدنى ذوق لا يقول هذا الوجه في تطابق الأثر للترجمة.
          وقال ابن المنير: إن قيل: ترجم على استعمال فضل الوضوء ثم ذكر حديث السواك والمجة فما وجهه؟ قلت: مقصوده الرد على من زعم أن الماء المستعمل في الوضوء لا يتطهر به.
          قلت: هذا الكلام أبعد من كلام بعضهم: فأي دليل على أن الماء في خبر السواك والمجة فضل الوضوء وليس فضل الوضوء إلا الماء الذي يفضل من وضوء المتوضئ؟ فإن كان لفظ فضل الوضوء عربياً فهذا معناه، وإن كان غير عربي فلا تعلق له.
          وقال الكرماني: وفضل السواك: هو الماء الذي ينقع فيه السواك ليترطب، وسواكهم الأراك.
          قلت: بينت لك أن هذا كلام واهٍ، وأن فضل السواك لا يقال له: فضل الوضوء، وهذا لا ينكره إلا معاند، ويمكن أن يقال بالجر الثقيل: أن المراد من فضل السواك: هو الماء الذي في الظرف والمتوضئ يتوضأ منه وبعد فراغه من تسوكه عقب فراغه من المضمضة يرمي السواك الملوث بالماء المستعمل فيه. انتهى.
          وأقول: كلام بعضهم صحيح لقياسه ماء الوضوء حيث لم يتغير على الذي وضع فيه سواك ليترطب به ولم يتغير، وهو قياس صحيح لوجود الجامع بينهما، وهو عدم التغير، وهي أقرب من توجيهه لما لا يخفي على المنصف، وهو الموجود في ((الفتح)) مأخوذ من كلام ابن بطال حيث قال: هذا الباب كله يقتضي طهارة فضل الوضوء وهو الماء المتطاير عن المتوضئ وفضل السواك _وهو ما ينقع فيه السواك وهو الأراك_ لا يغير الماء، فأراد البخاري أن يعرفك أن كل ما لا يتغير فإنه يجوز الوضوء به، والماء المستعمل غير متغير فهو طاهر. انتهى.
          وكأنه سقط في نسخة العيني أو أسقط: وكذلك مجرد الاستعمال لا يغير الماء، فيرد اعتراضه، ولعل كلام (المنحة) مأخوذ من كلام العيني حيث قال: والمراد بفضلة الماء الذي ينقع هو فيه ليترطب، وبهذا تحصل مطابقة ذلك للترجمة بحمل الوضوء فيها على ما يشمل بعضه. انتهى، فتأمل.