الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان

          ░33▒ (بَابُ المَاءِ الَّذِي يُغْسَلُ بِهِ شَعَرُ الإِنْسَانِ): أي: هو طاهر، ومن ثم قال في ((الفتح)): أشار المصنف إلى أن حكمه الطهارة؛ لأن المغتسل قد يقع في غسله من شعره فلو كان نجساً لتنجس الماء بملاقاته، ولم ينقل أن النبي صلعم تجنب ذلك في اغتساله بل كان يخلل أصول شعره وذلك يفضي غالباً إلى تناثر بعضه، فدل على طهارته، وهو قول الجمهور، قَاله الشافعي في القديم ونص عليه في الجديد وصححه جماعة من أصحابه، وهي طريقة الخراسانيين، وصحح جماعة القول بتنجسه وهي طريقة العراقيين، والصحيح: طهارته، واستدل المصنف لطهارته بما ذكره من الحديث من أخذ شعر النبي، ورد: بأن شعر النبي مكرم ولا يقاس عليه غيره، ونقضوه: بأن الخصوصية لا تثبت إلا بالدليل ويلزم الناقض أن لا يحتج على طهارة المني بأن عائشة كانت تفركه من ثوبه صلعم لإمكان أن يقال فيه الخصوصية.
          قال في ((الفتح)): والحق أن حكمه حكم جميع المكلفين في الأحكام الثابتة إلا ما دل الدليل على الخصوصية، وقد تكاثرت الأدلة على طهارة فضلاته، وعد الأئمة ذلك في خصائصه فلا يلتفت إلى ما وقع في كتب كثير من الشافعية مما يخالف ذلك، فقد استقر الأمر بين أئمتهم على القول بالطهارة. انتهى.
          وذكر القاضي حسين في العذرة منه ◙ وجهين وأنكر بعضهم على الغزالي حكايتهما فيها وزعم نجاستها بالاتفاق.
          وقد شنَّع العيني على من يقول من الشافعية بنجاسة فضلاته لا سيَّما على من يقول بنجاسة شعره ◙ وأن قسمته شعره بين أصحابه للتبرك لا يلزم منه القول بالطهارة؛ لأن القدر الذي أخذ منه كان يسيراً معفواً عنه فقال: هذه تأويلات فاسدة، وقد اخترق بعض الشافعية وكاد أن يخرج عن دائرة الإسلام، حيث قال: وفي شعر النبي وجهان، وحاشا النبي من ذلك، كيف وقد قيل بطهارة فضلاته؟ وكم للغزالي من هفوات حتى في تعلقات النبي ◙.
          ويلزم من قول بعضهم: حكم النبي صلعم كحكم جميع المكلفين مساواة الناس للنبي صلعم ولا يقول بذلك إلا جاهل غبي، وأين مرتبته من مراتب الناس؟ ولا يلزم أن يكون دليل الخصوصية بالفعل دائماً فالفعل له مدخل في غير النبي وأنا أعتقد أنه لا يقاس عليه غيره وإن قالوا غير ذلك فأذني عنه صماء. انتهى ملخصاً.
          وأقول: لا يلزم من مساواة الناس له عليه الصلاة والسلام في هذا الحكم أن يكون مراتبهم مثل مرتبته ◙ هذا أمر معلوم انتفاؤه بالضرورة عند كل مسلم في مرتبته، ولا يقوله أحد، ألا ترى أنهم ساووه في غالب الأحكام ولا يتوهم أحد من ذلك مساواة الناس له أصلاً فهو صلعم أجلُّ وأفضل من جميع الخلق أجمعين.
          (وَكَانَ عَطَاءٌ): أي: ابن أبي رباح فيما وصله محمد بن إسحاق الفاكهي في (أخبار مكة) بسند صحيح إلى عطاء (لَا يَرَى بِهِ): أي: بشعر الإنسان (بَأْساً): ولابن عساكر بإسقاط: <به> وأبدل من الضمير قوله: (أَنْ يُتَّخَذَ مِنْهَا): أي: شعور الإنسان، ولابن عساكر: <منه> أي: من الشعر (الخُيُوطُ وَالحِبَالُ): قاله عطاء لما سئل / عن شعور الناس التي تحلق بمنى، ويحتمل التعميم، ومن ثم قال ابن الملقن: لما ذكر البخاري شعر الإنسان استطرد غيره فذكر ما ذكره عن عطاء، وروي عنه أيضاً نجاسته فكأنه أشار بما ذكره إلى رده.
          ونقل ابن بطال عن المهلب: أن البخاري أراد بهذه الترجمة رد قول الشافعي: إن شعر الإنسان إذا فارق الجسد نجس فإذا وقع في الماء نجسه، قال: وعلى طهارته الجمهور من العلماء، وأما القول بنجاسته، فرجع عنه الشافعي، كما حكاه المزني وغيره. وحكى الربيع الجيزي عن الشافعي في شعر غيره: أنه تابع للجلد يطهر بطهارته وينجس بنجاسته، وصرح آخرون بأن الشعر والصوف والوبر والعظم والظلف تحلها الحياة وتنجس بالموت وهو الراجح عند الشافعية، وذهب جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والحنابلة وغيرهم إلى طهارة ما ذكر بناءً على أنها لا تحلها الحياة.
          واستدل ابن المنذر على ذلك: بأنهم أجمعوا على طهارة ما يجز من الشاة وهي حية وعلى نجاسة ما يقطع من أعضائها وهي حية فدل ذلك على التفرقة بين الشعر وغيره من أجزائها وعلى التسوية بين حالتي الموت والانفصال، واستدل البغوي في (شرح السنة): إلى أن ما عدا ما يؤكل من أجزاء الميتة لا يحرم الانتفاع به بأنه صلعم قال في شاة ميمومة: (إنما حرم أكلها).
          وحكى النووي في ((شرح المهذب)): عن عطاء والحسن والأوزاعي والليث: أن الشعور ما في معناها ينجس بالموت لكنها تطهر بغسلها.
          تنبيه: قد يفهم قوله من المصنف: (وكان عطاء...إلخ) أن غيره يرى بذلك بأساً وهو القياس؛ لأن أجزاء الآدمي محترمة كهو إلا أن يقال: إن الشعر ونحوه كظفره مما يتسامح فيها، فليراجع.
          وانظر هل يجري القول بنجاسة شعر الآدمي فلذا قال في الإنسان نفسه: إذا مات يتنجس ويطهر بغسله، كما هو مذهب الحنفية أم لا يجري هذا القول فيه عند الشافعية؟ فحرره.
          (وَسُؤْرِ الكِلَابِ): أي: وباب حكم سؤرها _بالهمز وتخفيفها_ وهو ما يبقى في الإناء بعد شربها؛ أي: هل هو طاهر أم لا (وَمَمَرِّهَا فِي المَسْجِدِ): وفي رواية زيادة: (وأكلها) بالجر من إضافة المصدر إلى فاعله؛ أي: وباب حكم ما تأكله هل ينجس أم لا؟ وهو مأخوذ من ولوغها حينئذٍ فإنها إذا لم تنجس الماء بولوغها فلا تنجس ما تأكل منه.
          قال ابن الملقن: وقصد البخاري بذلك إثبات طهارة الكلب وطهارة سؤره.
          قال الإسماعيلي: أراه نحا ذلك بما ذكره من الأخبار لكن في الاستدلال بها على طهارة الكلب نظر. انتهى.
          وأقول: وجهة النظر _كما في ابن الملقن_ أن الأمر بالغسل من ولوغه ظاهر في أنه لنجاسته لا للتعبد، وأما غرف الماء في الخف فليس فيه أن الكلب شربه منه، وعلى تسليمه فشرع من قبلنا ليس بشرع لنا على الصحيح وهو منسوخ في شرعنا، ولا يلزم من إقبال الكلاب في المسجد وإدبارها طهارتها، لكن ذلك مظنة بولها ولم يعلم أنه أمر بغسله كما أمر بغسل بول الأعرابي، ويؤيده ما سيأتي وأنها كانت تبول فيه، وابن وهب يرى طهارة بولها، وأما حديث عدي فهو مسوق؛ لأن قتله ذكاة لا لطهارته.
          (وَقَالَ الزُّهْرِيُّ): فيما رواه الوليد بن مسلم في ((مصنفه)) عن الأوزاعي وغيره عنه، ورواه في (التمهيد) بسند صحيح (إِذَا وَلَغَ الكَلْبُ): فعلاً كان أو غيره وسقط: (الكلب) في بعض، لكنه مقدر، وضمير (ولغ) عائد إليه لدلالة المقام.
          (فِي إِنَاءٍ): ولأبي ذر: <في الإناء> (لَيْسَ لَهُ): أي: لمريد الوضوء (وَضُوءٌ): بفتح الواو (غَيْرُه): بالرفع أوالنصب، وسقط من بعض النسخ؛ أي: غير ذلك الإناء الذي ولغ فيه (يَتَوَضَّأُ بِهِ): جواب (إذا) ولأبي ذر: <حتى يتوضأ بها> أي: ببقية الماء، قاله البرماوي تبعاً للكرماني.
          (بها): أي: بالمطهرة؛ أي: بالماء الذي فيها.
          (وَقَالَ سُفْيَانُ): أي: الثوري لابن عينية وإن كان المتبادر إلى الذهن لكونه معروفاً بالرواية عن الزهري، لكن قول الوليد عقب أثر الزهري هذا يعين أنه الثوري فإنه قال: ذكرت ذلك لسفيان الثوري فقال: والله هذا الفقه / بعينه، فذكره وزاد بعد قوله: (شيء): فأرى أن يتوضأ به ويتيمم.
          (هَذَا): أي: الحكم بالتوضئ به (الفِقْهُ): المستفاد من القرآن (بِعَيْنِهِ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى): ولأبي الوقت: <لقول الله تعالى> ({فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء:43]): ورواه القابسي عن أبي زيد المروزي بلفظ: <يقول الله: فإن لم تجدوا>، وهو سهو لمخالفته للتلاوة ولم يوجد في شيء من القراءات بعد التتبع الكثير، ولم يوافق القابسي على هذه الرواية أحد إلا ما حكاه أبو نعيم في ((المستخرج)) على البخاري. قيل: ولعله رواه بالمعنى بناء على تجويزه ذلك، وهو خلاف الصواب إذ القراءة بالرواية لا بالرأي على الصحيح.
          (هَذَا): أي: الذي ولغ فيه الكلب (مَاءٌ): وللأصيلي: <فهذا ماء>، فهو داخل تحت عموم قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء:43] لأن ({مَاءً}) نكره في سياق النفي
          (وَفِي النَّفْسِ مِنْهُ شَيْءٌ): من تتمة كلام سفيان، وذلك لعدم ظهور دلالته أو لوجود معارض له من القرآن أوغيره ولذا قال: (يَتَوَضَّأُ بِهِ): وفي رواية: (منه): أي: الماء المذكور (وَيَتَيَمَّمُ): لأن الماء المشكوك فيه لاختلاف العلماء كالعدم.