الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين

          ░34▒ (بَابُ مَنْ لَمْ يَرَ الوُضُوءَ): أي: واجباً من مخرج مخارج البدن (إِلَّا مِنَ المَخْرَجَيْنِ): المعهودين وقوله: (القُبُلِ وَالدُّبُرِ): ويسميان بالسبيلين: عطف بيان أو بدل، وزاد أبو الوقت لفظ: <من> قبل (القبل)، وسقط: <من القبل والدبر> للأصيلي، فلا يجب الوضوء من مخرج الفصد، أو الحجامة، أو القيء وغيرها. والقبل: يشمل ذكر الرجل وفرج المرأة والخنثى، ولا ينافي ما ذكر من الحصر أن للوضوء أسباباً أخر: كالنوم؛ لأنه حصر إضافي باعتبار اعتقاد الخصم، كمن رأى أن الخارج من البدن بالفصد _مثلاً_ ناقض.
          أو يقال: إن نواقض الوضوء المعتبرة ترجع إلى المخرجين، فالنوم: مظنة خروج الريح، ومس المرأة ومس الذكر: مظنة خروج المذي، قاله في ((الفتح)).
          (لِقَوْلِهِ تَعَالَى): وفي رواية غير أبي ذرٍّ والأصيلي وابن عساكر وأبي الوقت: <وقول الله تعالى> ({أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ}) يشمل المذكر والمؤنث ({مِنَ الغَائِطِ} [النساء:43]): هو كناية عن قضاء حاجة الإنسان، لكن أورد عليه أنه ليس في الآية ما يدل على الحصر في المخرجين، بل فيه ملامسة النساء أيضاً، وفي معناها: مس الفرج مع صحة الحديث به لكنه ليس على شرط الشيخين، فقط صححه مالك وجميع من أخرج الصحيح غيرهما.
          وأجيب: بأن الآية دلت على النقض بالغائط إذ هو كناية عن الخارج من السبيلين دون نحو الدم الحاصل بالفصد، فتأمل.
          (وَقَالَ عَطَاءٌ): أي: ابن أبي رباح مما وصله ابن أبي شيبة، وغيره بإسناد صحيح (فِيمَنْ يَخْرُجُ مِنْ دُبُرِهِ الدُّودُ): أي: مثلاً (أَوْ مِنْ ذَكَرِهِ نَحْوُ القَمْلَةِ): واحدة القمل معروف، وفي معنى الذكر: قبل المرأة (يُعِيدُ الوُضُوءَ): لانتقاضه بذلك، فيلزم قطعاً إعادة الصلاة، وفي اليونينية: <يعيد الصلاة> بدل: (الوضوء)، وهذا مذهب ابن مسعود وابن عباس والشافعي أيضاً وأحمد وإسحاق وأبي ثور والثوري والأوزاعي والحسن وكثيرين واحتجوا بحديث علي الآتي في الباب في المذي وقيس عليه نحو القملة، وخالف في ذلك قتادة ومالك فقالا بإعادة الصلاة دون الوضوء.
          قال ابن المنذر: وروي ذلك عن النخعي. وقال داود: لا ينقض الوضوء النادر وإن دام إلا المذي. ونقل ابن بطال عن مالك أنه قال: ما خرج نادراً من المخرجين على وجه المرض لا ينقض الوضوء كالإستحاضة وسلس / البول والمذي والحجر والدم، وكذا خروج الدودة من الدبر والقملة من الذكر، إلا أن يخرج معها شيء من حدث. انتهى.
          قال ابن الملقن: واحتج لمن قال: لا ينقض النادر بقوله ◙: (لا وضوء إلا من صوت أو ريح)، وصححه الترمذي من طريق أبي هريرة، وبحديث صفوان بن عسال الصحيح: (لكن من غائط وبول ونوم)؛ ولأنه نادر فلم ينقض كالقيء.
          وأجيب: بأنه إذا وجب الوضوء بالمعتاد الذي تعم به البلوى فغيره أولى، والجواب عن حديث: (لا وضوء إلا من صوت أو ريح) بأنا أجمعنا على أنه ليس المراد به حصر ناقض الوضوء في ذلك بل المراد: نفي وجوب الوضوء بالشك، وعن حديث صفوان: بأنه بين فيه جواز المسح وبعض ما يمسح بسبب، ولم يقصد بيان جميع النواقض، ألا تراه لم يذكر الريح وزوال العقل وهما مما ينقض بالإجماع؟
          ثم قال: واحتج بعض أصحابنا بحديث: (الوضوء مما خرج)، رواه البيهقي عن علي وابن عباس وروي مرفوعاً ولا يثبت. وقال أبو حنيفة: لا ينقض خروج الريح من قبل الرجل والمرأة، ووافقنا أحمد على النقض به
          (وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ): أي: الصحابي وهو من المكثرين للرواية عن رسول الله صلعم (إِذَا ضَحِكَ): أي: المصلي (فِي الصَّلَاةِ أَعَادَ الصَّلَاةَ): وانظر حكمة إعادة الصلاة ظاهراً (وَلَمْ يُعِدِ الوُضُوءَ): هذا الأثر رواه البيهقي في (المعرفة) بسنده عن جابر، قال: ورواه أبو شبة قاضي واسط مرفوعاً، والصحيح الوقف، ولذا اقتصر البخاري عليه.
          قال البيهقي: وروينا عن ابن مسعود وأبي موسى الأشعري، وأبي إمامة الباهلي ما يدل على ذلك وهو قول الفقهاء السبعة والشعبي وعطاء والزهري، وهو إجماع فيما ذكره ابن بطال وغيره، وإنما الخلاف في نقض الوضوء به، فذهب مالك والليث والشافعي إلى أنه لا ينقض الوضوء، وذهب النخعي والحسن وأبو حنيفة وأصحابه، والثوري، والأوزاعي، إلى أنه ينقض الوضوء لكنه عند الحنفية مقيد بما إذا كان قهقهة في صلاة ذات ركوع وسجود، ودليل من لم يره حدثاً: أنه لما لم يكن حدثاً في غير الصلاة لم يكن حدثاً فيها، والأحاديث الدالة على النقض به ضعفها كلها الدارقطني.
          (وَقَالَ الحَسَنُ): أي: البصري (إِنْ أَخَذَ): أي: المتوضئ (مِنْ شَعَرِهِ أَو أَظْفَارِهِ): ولابن عساكر: <وأظفاره>: بالواو (أَوْ خَلَعَ خُفَّيْهِ فَلَا وُضُوءَ عَلَيْهِ): هذا الأثر أسنده ابن أبي شيبة بإسناد صحيح إلى الحسن. قال ابن بطال: وهو قول أهل الحجاز والعراق وكذا الشافعي، وخالف في ذلك الحكم، وعطاء، وسعيد بن جبير، وابن عمر، وعلي وأبو وائل، ومجاهد فأوجبوا الوضوء.
          وقد اختلف العلماء في نزع خفيه بعد المسح عليهما فقيل: يلزمه استئناف الوضوء، وبه قال مكحول، وابن أبي ليلى، والزهري، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، والشافعي في القديم، وقيل: يغسل رجليه مكانه فإن لم يفعل استأنف الوضوء، وبه قال مالك والليث، وقيل: يغسلهما، وبه قال الثوري، وأبو حنيفة، والشافعي في الجديد، لكن بنية عند الشافعي، وقيل: لا شيء عليه ويصلي كما هو، وبه قال الحسن البصري، وقتادة وروي عن النخعي.
          (وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ): مما وصله القاضي إسماعيل في (الأحكام) بإسناد صحيح عن مجاهد موقوفاً: (لا وضوء إِلَّامِنْ حَدَثٍ): تقدم عنه مرفوعاً بنحوه في باب: لا تقبل صلاة بغير طهور كحديثه المار قريباً: (لا وضوء إلا من صوت أو ريح).
          قال الكرماني: فإن قلت: هذا قول كل الأئمة، فما وجه تخصيصه بأبي هريرة؟ قلت: إنه يقيد الحدث بالضرطة ونحوها من الخارج من المعتاد فكأنه قال: لا وضوء إلا من الخارج من السبيلين، فهو رد لمن رأى أن الخارج من البدن والفصد _مثلاً_ ناقض للوضوء. انتهى مفرقاً.
          وقوله: (وَيُذْكَرُ عَنْ جَابِرٍ): تعليق بصيغة التمريض فيقضي عدم ثبوته عنده، لكن أسنده أبو داود، وصححه ابن حبان من حديث ابن إسحاق قال: حدثني صدقة بن يسار، عن عقيل بن جابر، عن أبيه جابر الصحابي مطولاً.
          (أَنَّ النَّبِيَّ صلعم كَانَ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ): بكسر الراء: جمع رُقعة _بضمها_ معنى: الخرقة: اسم شجرة، سميت الغزوة بذلك؛ لأن أقدامهم نقبت فلفوا عليها الرقاع وهو الصحيح من أقوال ستأتي (فَرُمِيَ): بالبناء للمفعول (رَجُلٌ): هو عبادة بن بشر (بِسَهْمٍ فَنَزَفَ الدَّمُ): بفتح الزاي، قال الجوهري: يقال: نزفه الدم: إذا خرج منه دم كثير حتى يضعف، فهو نزيف ومنزوف. انتهى.
          وقول ابن التين: كذا رويناه، والذي عند أهل اللغة: نزف / دمه؛ أي: سال كله على ما لم يسم فاعله. انتهى فيه نظر، فافهم.
          (فَرَكَعَ): أي الرجل (وَسَجَدَ وَمَضَى فِي صَلَاتِهِ): أي: لم يقطعها، ففيه دليل لمن قال _كالشافعي_ أن الدم إذا سال لا ينقض الوضوء.
          قال الكرماني: فإن قلت: كيف مضى في صلاته وظهور الدم عليه سبب لتنجس بدنه، والصلاة كما لا تصح مع الحدث لا تصح مع الخبث؟ قلت: إما لأن قليل دم الجرح معفو عنه، أو لأنه زال في الحال.
          وقال الخطابي: لست أدري كيف يصح الاستدلال به والدم إذا سال يصيب بدن الإنسان وثيابه، فكيف تصح صلاته؟ إلا أن يقال: كان الدم يجري من الجراح على سبيل الدفق حتى لا يصيب شيئاً من ظاهر بدنه وثيابه، وهو أمر عجيب.
          (وَقَالَ الحَسَنُ): أي: البصري (مَا زَالَ المُسْلِمُونَ يُصَلُّونَ فِي جِرَاحَاتِهِمْ): جمع جِراحة بكسر الجيم فيهما (وَقَالَ طَاوُوسٌ): قال ابن معين: اسمه ذكوان وهو: ابن كيسان اليماني، أبو عبد الرحمن الحميري من أهل فارس، لكنه كان ينزل مخاليف اليمن، أحد أعلام التابعين الأخيار، مات بمكة يوم التروية سنة ست ومائة، وصلى عليه هشام بن عبد الملك. قال الكرماني: وسمي طاووساً؛ لأنه كان طاووس القراء.
          (وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ): الظاهر أنه ابن الحسين بن علي بن أبي طالب، وهو أبو جعفر المعروف بالباقر التابعي، مات سنة أربع عشر ومائة، ويحتمل أن يريد به محمد بن علي المشهور بابن الحنفية المتقدم في آخر كتاب العلم (وَعَطَاءٌ): أي ابن رباح (وَأَهْلُ الحِجَازِ): من عطف العام، وقال الكرماني: أي: مالك والشافعي ونحوهما (لَيْسَ فِي الدَّمِ وُضُوءٌ): هذا الأثر رواه ابن أبي شيبة عن طاووس من طريق حنظلة بلفظ: كان لا يرى في الدم السائل وضوء بل يغسل عنه الدم ثم حسبه، والمعنى: ليس في خروج الدم من غير المنفذين، وهو لا فرق بين أن يكون حصل برعاف أو حجامة مثلاً، سال أم لا عند من ذكر، وحكي ذلك عن ابن المسيب، وأبي قلابة، وسعيد بن جبير، وجابر، وأبي هريرة.
          قال ابن بطال: حديث جابر السابق آنفاً يدل على أن الدم لا ينقض الوضوء، وهو قول أهل الحجاز، وربيعة ومالك والليث وأهل المدينة، لكنه يحتاج إلى غسله بالماء، وقال الليث: يجزئ أن يمسحه ويصلي من غير غسله، وقال أبو حنيفة وأصحابه: الوضوء لازم مما ذكر، وهو قول أحمد بن حنبل.
          وقال ابن الملقن: سائر ما ذكره البخاري في الباب من أقوال الصحابة والتابعين أنه لا وضوء من الدم والحجامة، مطابق للترجمة أنه لا وضوء من غير المخرجين، وكذلك أحاديث الباب حجة فيه أيضاً فإن كان الدم يسيراً غير سائل فلا ينقض عند جميعهم، وانفرد مجاهد بإيجاب الوضوء من يسير الدم أيضاً.
          (وَعَصَرَ ابْنُ عُمَرَ بَثْرَةً): بفتح الموحدة فسكون المثلثة وقد تفتح: خراج صغير، والجمع: بُثُر وبَثَرات، وفي ((الصحاح)): بثر وجهه: بالضم والكسر، والفتح والكسر أفصح كما قال ابن طريف (فَخَرَجَ مِنْهَا الدَّمُ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ): ولأبوي ذر والوقت والأصيلي: <فخرج منها دم>، وفي أخرى لهم: <الدم ولم يتوضأ>، وفي أخرى لابن عساكر: <دم ولم يتوضأ>.
          هذا الأثر أسنده ابن أبي شيبة في ((مصنفه)) بسنده الصحيح عن بكر بلفظ: قال: رأيت ابن عمر عصر بثرة في وجهه فخرج منها شيء من دم فحكه بين أصبعيه ثم صلى ولم يتوضأ.
          ثم روى بإسناده عن ابن المسيب: أنه أدخل أصابعه في أنفه فخرج منه دم فمسحه وصلى ولم يتوضأ. وكان أبو هريرة لا يرى بالقطرة والقطرتين من الدم في الصلاة بأساً. وكان أبو قلابة وجابر وأبو سوار لا يرون به بأساً إلا أن يسيل أو يقطر.
          قال ابن الحصار في (تقريب المدارك): لا يصح في الوضوء من الدم شيء إلا وضوء المستحاضة
          (وَبَزَقَ): بفتح الزاي والسين والصاد بمعنى (ابْنُ أَبِي أَوْفَى): بفتح الفاء: هو عبد الله صحابي كأبيه، شهد بيعة الرضوان وما بعدها من المشاهد ولم يزل بالمدينة حتى قبض رسول الله صلعم، روي له عن رسول الله صلعم خمسة وتسعون حديثاً، خرج البخاري منها خمسة عشر وقال النبي صلعم في حقه: (اللهم صل على آل أبي أوفى)، مات سنة سبع وثمانين وقد كف بصره، وهو آخر من مات من الصحابة بالكوفة.
          (دَماً): وهو يصلي (فَمَضَى فِي صَلَاتِهِ): أي: استمر فيها لعدم انتقاض طهره بما ذكر، وهذا الأثر وصله الثوري عن عطاء بن السائب بإسناد صحيح: أنه رآه فعل ذلك، وسفيان سمع من عطاء قبل اختلاطه، ورواه أيضاً ابن أبي شيبة بإسناده الصحيح عن عبد / الوهاب الثقفي عن عطاء بن السائب قال: رأيت ابن أبي أوفى بزق فرمى في بزاقه دماً وهو يصلي ثم مضى في صلاته.
          وروى عن الحسن في رجل بزق فرأى في بزاقه دماً: أنه لم ير ذلك شيئاً حتى يكون غبيطاً. وعن ابن سيرين: ربما بزق فيقول للرجل: انظر هل تغير الريق؟ فإن قال: تغير، بزق الثانية والثالثة، فإن كان فيها متغيراً فإنه يتوضأ وإلا فلا يرى به وضوءاً.
          وعن إبراهيم والحارث العكلي: إذا غلبت الحمرة البياض يتوضأ وإلا فلا، وعن حماد: لا شيء في الصفرة في البزاق إلا أن يكون دماً سائلاً، وعن الشعبي: لا يضره.
          (وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَالحَسَنُ): أي: البصري (فِيمَنْ يَحْتَجِمُ): وللأربعة: <فيمن احتجم> (لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَا غَسْلُ مَحَاجِمِهِ): أي: لا الوضوء، والمحاجم: جمع محجمَة _بفتح الميم_ موضع الحجامة، وصله الشافعي وابن أبي شيبة عن ابن عمر بلفظ: كان إذا احتجم غسل محاجمه، وأما أثر الحسن فوصله أيضاً ابن أبي شيبة بلفظ: سئل عن الرجل يحتجم ماذا عليه؟ قال: يغسل أثر محاجمه.وسقط من رواية الأصيلي وأكثر الرواة: <إلا> وهو الذي ذكره الإسماعيلي، وحكي عن الليث ما يوافقه فإنه قال: يجزي المحتجم أن يمسح موضع الحجامة ويصلي ولا يغسله.
          وقال ابن بطال: ثبتت <إلا> في رواية المستملي دون رفيقيه. قال في ((الفتح)): وهي في نسختي ثابتة من رواية أبي ذر عن الثلاثة. انتهى.
          وكذا هي ثابتة في فرع اليونينية عنه، لكن الذي نقله ابن الملقن عن ابن بطال أنه قال: هكذا رواه المستملي وحده بإثبات <إلا>، ورواه الكشميهني وأكثر الرواة بغير <إلا>، قال: والمعروف عن ابن عمر والحسن: أن عليه غسل محاجمه. وحكى ابن المنذر: أن رواية المستملي هي الصواب.قال الكرماني: والنسخة الثابتة فيها هي الصحيحة، وعند أبي حنيفة وأتباعه وأحمد ومن وافقه: أن الحجامة يلزم منها الوضوء وغسل أثر المحجم.