الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب الوضوء من النوم

          ░53▒ (بَابُ الوُضُوءِ مِنَ النَّوْمِ): اللام للجنس فيصدق بالقليل والكثير؛ أي: هل يجب / الوضوء أو يستحب منه (وَمَنْ لَمْ يَرَ): أي: وباب من لم ير (مِنَ النَّعْسَةِ): هي فتور في الحواس ويسمى: الوسَن _بالتحريك_.
          قال في ((الفتح)): وظاهر كلامه أن النعاس يسمى نوماً، والمشهور التفرقة بينهما وأن من قرت حواسه بحيث يسمع كلام جليسه ولا يفهم معناه فهو ناعس، وإن زاد على ذلك فهو نائم، ومن علامات النوم الرؤيا. وفي (العين) و((المحكم)): النعاس: النوم، وقيل: مقاربته. انتهى.
          وأقول: رده العيني فقال: فلا نسلم أن ظاهر كلام البخاري يدل على عدم التفرقة، فإنه عطف (ومن لم ير من...إلخ) على: (النوم). انتهى.
          وأقول: لا يصح عطف (ومن لم ير) على: (النوم)؛ لأنه يصير التقدير: وباب الوضوء من (من لم ير...إلخ) ولا معنى له، وإن أراد أنه على حذف مضاف؛ أي: ومن نعاس من لم ير...إلخ فلذلك لا يصح؛ لأن مقتضى العطف طلب الوضوء منه مع أن العبارة صريحة في عدم طلبه من ذلك بل هو معطوف على (الوضوء) وحينئذ فهو صادق بكون النعاس نوماً، وإنما ذكره للتنبيه على أنه لا وضوء منه إذا كان خفيفاً، وبكونه مغايراً له، وهو المشهور، وحينئذٍ فعطفه على ما قبله ظاهر. فتأمل.
          ولو قال العيني: فإنه عطف (ومن لم ير...إلخ) على (الوضوء) لكان وجيهاً وكلامه أول الباب يدل عليه
          (وَالنَّعْسَتَيْنِ): تثنية نَعسة _بفتح النون_ للمرة من النَّعْس _بفتح فسكون_ وفعله: نعس من باب نصر، ومن قال: نعُس _بالضم_ فقد أخطأ.
          وقال في (الموعب): وبعض بني عامر يقول: ينعَس _بالفتح_ يقال: نعس ينعس نعساً ونعاساً فهو ناعس ونعسان، وامرأة نعسى. وقال ابن السكيت وثعلب: لا يقال: نعسان.
          (أَوِ الخَفْقَةِ): للمرة من: خفق يخفق خفقاً من باب ضرب: إذا حرك رأسه وهو ناعس، وقال ابن الأثير: خفق: إذا نعس، وقال ابن التين: الخفقة: النعسة، وإنما كرر لاختلاف اللفظ.
          وقال في ((الفتح)): الظاهر أنه من الخاص بعد العام، قال أهل اللغة: خفق رأسه: إذا حركها وهو ناعس، وقال أبو زيد: خفق برأسه من النعاس: أماله، وقال الهروي: معنى تخفق رؤوسهم: تسقط أذقانهم على صدورهم، وأشار بذلك _كالبخاري_ في حديث أنس: كان أصحاب رسول الله صلعم ينتظرون الصلاة فينعسون حتى تخفق رؤوسهم ثم يقومون إلى الصلاة، رواه محمد بن نصر في (قيام الليل)، وإسناده صحيح، وأصله عند مسلم.
          وقوله: (وُضُوءاً): بضم الواو: مفعول به المار.
          وحاصل الترجمة ثلاثة أشياء: الوضوء من النوم، وعدمه من النعسة والنعستين والخفقة، وهذا واضح على نسخة: (والخفقة): بالواو، وان لم نجعلها مرادفة للنعسة، وأما على المرادفة أو على نسخ (أو) وهو الغالب فلا، إلا أن تجعل (أو): للتنويع، أما النوم فسيأتي وجه أخذه من الحديث، وما فيه من التفصيل.
          وأما النعاس والخفقة فيقال: مقتضى التقييد فيهما بالنعسة والنعستين أو الخفقة: أنه لو زاد على ما ذكر يجب به الوضوء، وبه صرح القسطلاني تبعاً للعيني وعللاه بأنه حينئذٍ يكون نائماً مستغرقاً.
          وأقول: لا يلزم من الزيادة المذكورة أن يكون نائماً مستغرقاً حتى يجب الوضوء به مطلقاً، بل المدار على النوم، والظاهر: أن الخفقتين مثل النعستين عند المصنف في عدم النقض بهما.
          ويدل له ما في حديث: كانت رؤوسهم تخفق خفقة أو خفقتين، وما ذكره المؤلف من قوله: (ومن لم ير...إلخ) هو قول الأكثر، ويتخرج من جعل النعاس نوماً أن من يقول: النوم حدث بنفسه، أنه يوجب الوضوء من النعاس، وقد روى مسلم في ((صحيحه)) في قصة صلاة ابن عباس مع النبي صلعم بالليل قال: فجعلت إذا أغفيت أخذ بشحمة أذني، فدل على أن الوضوء لا يجب على غير المستغرق.
          وروى ابن المنذر عن ابن عباس أنه قال: وجب الوضوء على كل نائم إلا من خفق خفقة.
          فأما النوم ففيه مذاهب:
          أحدها: أنه ناقض للوضوء، إذا كان غير ممكن مقعده، وهذا مذهب جمهور العلماء ومنهم الشافعي.
          ثانيها: لا ينقض بحال، وهو محكي عن أبي موسى الأشعري، وسعيد بن المسيب، والأعرج، والأوزاعي، وجماعة، وهو معزي لبعض الصحابة والتابعين، منهم ابن عمر ومكحول.
          ثالثها: ينقض الوضوء على كل حال كاملاً كان أو كثيراً متمكناً أو غيره، وهو مذهب الحسن والمزني وأبي عبيد وإسحاق بن راهويه. قال ابن المنذر: وهو قول غريب للشافعي قال: وبه أقول: قال: وروي عن ابن عباس وأنس وأبي هريرة.
          وأقول: وهو ظاهر إطلاق البخاري في الترجمة، فتأمل.
          رابعها: كثير النوم ناقض دون قليله. قال ابن المنذر: وهو قول الزهري وربيعة والأوزاعي في إحدى روايته ومالك وكذا أحمد في إحدى / روايته.
          خامسها: إذا نام على هيئة من هيئات المصلي كالراكع، والساجد، والقاعد، لا ينتقض وضوؤه وإن نام على قفاه أو مضطجعاً انتقض، وهو قول أبي حنيفة وداود وهو قول غريب للشافعي أيضاً وهو مذهب سفيان.
          سادسها: لا ينقض إلا نوم الراكع والساجد، وهو رواية عن أحمد، والصحيح عنه: أن النوم مطلقاً ناقض إلا النوم اليسير عرفاً من جالس أو قائم، وروي عنه: أنه لا ينقض النوم مطلقاً، وقيده بعضهم بما إذا ظن بقاء طهره.
          سابعها: لا ينقض إلا نوم الساجد، وروى عن أحمد أيضاً.
          ثامنها: لا ينقض النوم في الصلاة بكل حال وينقض خارجها، وهو قول ضعيف للشافعي أيضاً.
          تاسعها: من نام ساجداً في مصلاه فليس عليه وضوء، وإن نام ساجداً في غير صلاة فعليه الوضوء، وهو قول ابن المبارك.
          وقال أبو بكر بن العربي: تتبع علماؤنا مسائل النوم المتعلقة بالأحاديث الجامعة لتعارضها فوجدوها اثني عشر حالاً: ماشياً، وقائماً، ومستنداً، وراكعاً، وقاعداً، ومتربعاً، ومحتبياً، ومتكئاً، وراكباً، وساجداً، ومضطجعاً، ومستقراً، وهذا في حقنا، أما نبينا صلعم فمن خصائصه أنه لا ينتقض وضوؤه بالنوم مطلقاً، وألحق به بقية الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لحديث ابن عباس الواقع في هذا ((الصحيح)): (نام رسول الله صلعم حتى سمعت غطيطه وصلى ولم يتوضأ) وللحديث المشهور: (نحن معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا).