الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب ما يقول عند الخلاء

          ░9▒ (بَابُ مَا يَقُولُ عِنْدَ الخَلَاءِ): أي: عند إرادة دخوله، وهو بفتح الخاء المعجمة والمد، أصله: الفضاء، ويقال: المكان الخالي، ثم سمي به موضع قضاء الحاجة لخلاء القاضي فيه وقتها أو لخلاء الموضع في غير أوقات قضاء الحاجة، ويسمى: الكنيف والحش والمرفق والمرحاض أيضاً، وأما الخَلا _بالفتح والقصر_ فهو الحشيش الرطب والكلام الحسن أيضاً، والخِلاء _بالكسر مع المد_ عيب في الإبل.
          قال في ((الفتح)): واسْتشكل إدخال هذا الباب والأبواب التي بعده إلى باب الوضوء مرة مرة؛ لأنه شرع في أبواب الوضوء، فذكر منها فرضه وشرطه وفضيلته، وجواز تخفيفه، واستحباب إسباغه ثم غسل الوجه ثم التسمية ولا أثر لتأخيرها عن غسل الوجه؛ لأن محلها مقارنة أول جزء منه، فتقديمها في الذكر عنه، وتأخيرها سواء لكن ذكر بعدها القول عند الخلاء، واستمر في ذكر ما يتعلق بالاستنجاء ثم رجع فذكر الوضوء مرة مرة.
          وقد خفي وجه المناسبة على الكرماني فاستروح قائلاً: ما وجه الترتيب بين هذه الأبواب مع أن التسمية إنما هي قبل غسل الوجه لا بعده، ثم توسيط أمر الخلاء بين أبواب الوضوء لا يناسب ما عليه الوجود؟
          وأجاب بقوله: قلت: البخاري لا يراعي حسن الترتيب، وجملة قصده إنما هو في نقل الحديث وما يتعلق بتصحيحه لا غير. انتهى.
          وقد أبطل هذا الجواب في التفسير فقال لما ناقش البخاري في أشياء ذكرها من تفسير بعض الألفاظ بما معناه: لو ترك البخاري هذا لكان أولى؛ لأنه ليس من موضوع كتابه، وكذا قال في مواضع أخرى إذا لم يظهر له توجيه ما يقوله البخاري، مع أن البخاري في جميع ما يورده من تفسير الغريب إنما ينقله عن أهل ذلك الفن، كأبي عبيدة والنضر بن شميل والفراء وغيرهم.
          وأما المباحثة الفقهية فغالبها مستمدة له من الشافعي وأبي عبيدة وأمثالهما، وأما المسائل الكلامية فأكثرها من الكرابيسي وابن كلاب ونحوهما، والعجب من دعوى الكرماني أنه لا يقصد تحسين الترتيب بين الأبواب مع أنه لا يعرف لأحد من المصنفين على الأبواب ممن اعتنى بذلك غيره، حتى قال جمع من الأئمة: فقه البخاري في تراجمه، وقد أبديت في هذا الشرح من محاسنه وتدقيقه في ذلك ما لا خفاء به.
          وقد أمعنت النظر في هذا الموضع فوجدته في بادئ الرأي يظن الناظر فيه أنه لم يعتن بترتيبه _كما قال الكرماني_ لكنه اعتنى بترتيب كتاب الصلاة اعتناءً تاماً كما سأذكره هناك، وقد يتلمح أنه ذكر أولاً فرض الوضوء كما ذكرت، وأنه شرط لصحة الصلاة ثم فضله، وأنه لا يجب إلا مع التيقن، وأن الزيادة فيه على إيصال الماء للعضو ليس شرطاً وأنه مهما زاد على الإسباغ فضل، ومن ذلك الاكتفاء في غسل بعض الأعضاء بغرفة واحدة، وأن التسمية مع أوله مشروعة / كما يشرع الذكر عند دخول الخلاء، فاستطرد من هنا بآداب الاستنجاء وشرائطه، ثم رجع لبيان أن واجب الوضوء المرة الواحدة، وأن الثنتين والثلاث سنة، ثم ذكر سنة الاستنثار إشارة إلى الابتداء بتنظيف البواطن قبل الظواهر.
          وورد الأمر بالاستجمار وتراً في حديث الاستنثار، فترجم به؛ لأنه من جملة التنظيف، ثم رجع إلى تكملة حكم التخفيف، فترجم بغسل القدمين ولا يمسح إشارة إلى أن التخفيف لا يكتفى فيه بالمسح دون مسمى الغسل، ثم رجع إلى المضمضة؛ لأنها أخت الاستنشاق، ثم استدرك بغسل العقب لئلا يظن أنهما لا يدخلان في مسمى القدم، وذكر غسل الرجلين في النعلين رداً على من قصر في سياق الحديث المذكور، فاقتصر فيه على النعلين على ما سأبينه، ثم ذكر فضل الابتداء باليمين، ومتى يجب طلب الماء للوضوء، ثم ذكر حكم الماء الذي يستعمل، وما يوجب الوضوء، ثم ذكر الاستعانة في الوضوء ثم ما يمتنع على من كان على غير وضوء واستمر على ذلك إذا ذكر شيئاً من أعضاء الوضوء استطرد منه إلى ما له به تعلق لمن يمعن التأمل إلى أن أكمل كتاب الوضوء على ذلك، وسلك في ترتيب الصلاة أسهل من ذلك من هذا المسلك، فأورد أبوابها ظاهرة التناسب في الترتيب، فكأنه تفنن في ذلك، والله أعلم. انتهى ما في ((الفتح)).