نجاح القاري لصحيح البخاري

باب: في الركاز الخمس

          ░66▒ (بابٌ) بالتنوين (فِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ) بالرفع مبتدأ مؤخَّر، وقد مرَّ تفسير الرِّكاز قبل رقم [خ¦1498] من أنَّه من دفين الجاهليِّة أو غيره، كأنَّه ركز في الأرض ركزاً؛ أي: غرز، وسيجيء من هذا الحديث أيضاً، وإنَّما كان فيه الخمس / لكثرة نفعه وسهولة أخذهِ.
          (وَقَالَ مَالِكٌ) هو: ابن أنس إمام دار الهجرة المشهور (وَابْنُ إِدْرِيسَ) هو محمَّد بن إدريس الشَّافعي صاحب المذهب، ويقال: عبد الله بن إدريس الأودي الكوفيِّ وهو الأشبَهُ، قاله ابن التِّين.
          وقد جزم أبو زيد المروزي أحد الرُّواة عن الفربري بأنَّه الشَّافعي، وتابعه البيهقي وجمهور الأئمة. قال البيهقي في كتاب «معرفة السُّنن والآثار»: قد حكى محمَّد بن إسماعيل البخاري مذهب مالك والشَّافعي في الرِّكاز والمعدن في كتاب الزَّكاة من «الجامع» فقال مالك وابن إدريس يعني الشَّافعي، ويؤيِّده أنَّه وجد في عبارة الشَّافعي دون الأودي.
          فروى البيهقي في كتاب «معرفة السُّنن والآثار» من طريق الرَّبيع: قال الشَّافعي: والرِّكاز الذي فيه الخمس دِفن الجاهليَّة ما وجد في غير مِلكٍ لأحد.
          (الرِّكَازُ دِفْنُ الْجَاهِلِيَّةِ) بكسر الدال، بمعنى المدفون، كذبح بمعنى مذبوح، وبالفتح المصدر، ولا يراد هنا، كذا قاله الحافظ العسقلاني كالزَّركشي.
          وتعقَّبه في «المصابيح»: بأنَّه يصحُّ الفتح أيضاً، على أن يكون مصدراً أريد به المفعول، مثل الدِّرهم ضَرْب الأمير، وهذا الثوب نَسْجُ اليمن.
          (فِي قَلِيلِهِ) وهو الذي لا يبلغ نصاباً (وَكَثِيرِهِ) وهو ما بلغ نصاباً (الْخُمُسُ) وهذا قول أبي حنيفة ومالك وأحمد، وبه قال الشَّافعي في القديم كما نقله ابن المنذر عنه واختاره، وأمَّا في الجديد فشرط النِّصاب فقال: لا تجب الزَّكاة فيما دونه إلَّا إذا كان في ملكه من جنس النَّقد الموجود (وَلَيْسَ الْمَعْدِنُ) بكسر الدال؛ أي: المكان من الأرض يخرج منه شيء من الجواهر والذَّهب والفضَّة والحديد والنُّحاس والرَّصاص والكبريت وغير ذلك، مأخوذ من عَدَن بالمكان إذا أقام به يَعْدِن، بالكسر، عُدُوناً، سمِّي بذلك لعُدُون ما أنبتَه الله فيه، قاله الأزهري.
          وقال في «القاموس»: والمَعْدن كمَجْلس، منبت الجواهر من ذهب ونحوه؛ لإقامة أهله فيه دائماً، أو لإثبات الله تعالى إيَّاه فيه.
          (بِرِكَازٍ) لأنه لا يدخل تحت اسم الرِّكاز ولا له حكمة، فيجب فيه ربع العشر لا الخمس؛ لأنَّه يحتاج إلى عمل ومعالجة واستخراج؛ بخلاف الرِّكاز، وقد جرت السنَّة أنَّ ما غلظتْ مُؤْنتُه خُفِّفَ عنه في مقدار الزَّكاة، وما خفَّتْ زِيدَ فيه، وقيل: إنَّما جعل في الرِّكاز الخمس؛ لأنَّه مال كافر فأُنْزِلَ واجدُه منزلةَ الغانم فكان له أربعة أخماسهِ.
          ثمَّ إنَّ التَّعليق عن مالك رواه أبو عبيد في كتاب «الأموال»: حدَّثني يحيى بن عبد الله بن بكير، عن مالك قال: المعدن بمنزلة الزَّرع يؤخذ منه الزَّكاة / كما يؤخذ من الزَّرع حين يحصد قال: وهذا ليس بركاز، إنَّما الرِّكاز دِفن الجاهليَّة الذي يؤخذ من غير أن يطلب بمال، ولا يتكلَّف له كثير عمل. انتهى.
          قال الحافظ العسقلاني: وهكذا هو في سماعنا من «الموطَّأ» رواية يحيى بن بكير، لكن قال فيه: عن مالك، عن بعض أهل العلم.
          (وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلعم : فِي الْمَعْدِنِ جُبَارٌ) بضم الجيم وتخفيف الموحدة آخره راء؛ أي: هدر ليس فيه شيء؛ يعني: إذا حفر رجل معدناً في ملكه أو في موات فوقع فيه شخص ومات، أو استأجره ليعمل في المعدن فهلك لا يضمنه، بل يكون دمه هدراً، وليس المراد أنَّه لا زكاة فيه.
          (وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ) ففرق النَّبي صلعم بينهما، وجعل لكلٍّ منهما حكماً ولو كانا بمعنى واحد لجمع بينهما، فلمَّا فرَّق بينهما دلَّ على التَّغاير، وهذا من جملة كلام مالك وابن إدريس فيما ذهبا إليه. ثمَّ هذا التَّعليق أسنده المؤلِّف في هذا الباب، كما سيجيء إن شاء الله تعالى.
          (وَأَخَذَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِنَ الْمَعَادِنِ) أي: ممَّا يستخرج منها (مِنْ كُلِّ مِائَتَيْنِ) من الدَّراهم (خَمْسَةً) أي: خمسة دراهم وهي ربع العشر.
          وهذا التَّعليق وصله أبو عبيد في كتاب «الأموال» من طريق الثَّوري، عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم نحوه. وروى البيهقي من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة: أنَّ عمر بن عبد العزيز جعل المعدن بمنزلة الرِّكاز يؤخذ منه الخُمُس، ثمَّ عقَّب بكتاب آخر فجعل فيه الزَّكاة قال: وروينا عن عبد الله بن أبي بكر: أنَّ عمر بن عبد العزيز أخذ من المعادن من كلِّ مائتي درهم خمسة دراهم.
          وعن أبي الزِّناد قال: جعل عمر بن عبد العزيز في المعادن أرباع العشور إلَّا أن يكون رِكْزةً، فإذا كانت ركزة ففيها الخمس.
          (وَقَالَ الْحَسَنُ) البصري (مَا كَانَ مِنْ رِكَازٍ) دِفن الجاهليَّة (فِي أَرْضِ الْحَرْبِ فَفِيهِ الْخُمُسُ، وَمَا كَانَ مِنْ أَرْضِ السِّلْمِ) بكسر السين وسكون اللام، ويجوز فتح السين وهو الصُّلح، وفي رواية: <وما كان من أرض المُسْلِم> على صيغة الفاعل من الإسلام (فَفِيهِ الزَّكَاةُ) أي: ربع العشر، قال ابن المنذر: لا أعرف أحداً فرق هذه التَّفرقة غير الحسن.
          وهذا التَّعليق وصله ابن أبي شيبة من طريق عاصم الأحول عنه بلفظ: إذا وجد الكنز في أرض العدو ففيه الخمس، وإذا وجد في أرض العرب ففيه الزَّكاة.
          (وَإِنْ وَجَدْتَ اللُّقَطَةَ) / بتاء الخطاب على البناء للفاعل، واللُّقطة مفعوله، ويروى: <وإن وُجِدَت اللَّقطة> بضم الواو مبنيًّا للمفعول، واللُّقطة نائب عن الفاعل، ويروى: <وجدت لقطةً> بتنكير لُقَطة، وهي بضم اللام وفتح القاف وسكونها، لكن القياس أن يقال: بالفتح للاقط، وبالسكون للملقوط.
          (فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ فَعَرِّفْهَا) أنت لاحتمال أن تكون للمسلمين (وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْعَدُوِّ) أي: من ماله فلا حاجة إلى تعريفها؛ لأنَّها صارت ملكاً لواجدها (فَفِيهَا الْخُمُسُ) ولا يكون لها حكم اللقطة، وهذا من تتمَّة كلام الحسن البصري الذي أخرجه ابن أبي شيبة من طريق الأحول (وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ) قال ابن التِّين: المراد به هو أبو حنيفة ☼ ، وقال الحافظ العسقلاني: وهذا أوَّل موضع ذكره فيه البخاري بهذه الصِّيغة. ويحتمل أن يريد به أبا حنيفة وغيره من الكوفيين ممَّن قال بذلك.
          وقال العيني: من أين أخذه؟ لِمَ لا يجوز أن يكون مراده هو سفيان الثَّوري من أهل الكوفة، والأوزاعي من أهل الشَّام؟ فإنَّهما قالا مثل ما قال أبو حنيفة: إنَّ المعدن كالرِّكاز، وفيه الخمس، في قليله وكثيره، على ظاهر قوله صلعم : ((وفي الرِّكاز الخمس)).
          ولكن الظَّاهر أنَّ ابن التِّين لمَّا وقف على ما قاله البخاري في «تاريخه» في حقِّ أبي حنيفة ممَّا لا ينبغي أن يذكر في حقِّ أحد من أطراف النَّاس فضلاً أن يقال في حقِّ إمام هو أحد أركان الدِّين، صرَّح بأنَّ المراد ببعض النَّاس هو الإمام أبو حنيفة ☼ ، ولكن لا يُرْمَى إلَّا شجرٌ فيه ثمر، وهكذا قال ابن بطَّال.
          ذهب أبو حنيفة والثَّوري وغيرهما إلى أنَّ المعدن كالرِّكاز، واحتُجَّ لهم بقول العرب أركز الرَّجل إذا أصاب ركازاً وهي قطع من الذَّهب تخرج من المعادن، وهذا قول صاحب «العين» وأبي عبيد.
          وفي «مجمع الغرائب»: الرِّكاز المعادن، وفي «النِّهاية» لابن الأثير: المعدن والرِّكاز واحد فإذا علم ذلك بطل التَّشنيع على أبي حنيفة ☼ .
          (الْمَعْدِنُ رِكَازٌ مِثْلُ دِفْنِ الْجَاهِلِيَّةِ) بكسر الدال وفتحها كما مرَّ عن قريب؛ أي: المدفون؛ أي فيجب فيه الخمس، قال الزُّهري وأبو عبيد: الرِّكاز: المال المدفون والمعدن جميعاً (لأَنَّهُ يُقَالُ) أي: فيما سمع من العرب، والضَّمير في (لأنه) للشَّأن (أَرْكَزَ الْمَعْدِنُ) بفتح الهمزة فعل ماض مبني للفاعل (إِذَا خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ) بفتح الخاء من غير همز قبلها، ويروى: <أُخرج> بهمزة مضمومة على البناء للمفعول، / وأشار به إلى تعليل من يقول أن المعدن ركاز، وليس الأمر كذلك؛ لأنه لم ينقل عنهم ولا عن العرب أنَّهم قالوا: أركز المعدن، وإنما قالوا: أركز الرجل، فإذا لم يكن هذا صحيحاً فكيف يتوجَّه الإلزام بقول القائل.
          (قِيلَ لَهُ: قَدْ يُقَالُ لِمَنْ وُهِبَ لَهُ شَيْءٌ) بضم الواو وكسر الهاء على البناء للمفعول، وشيء مرفوع على أنَّه نائب عن الفاعل (أَوْ رَبِحَ رِبْحاً كَثِيراً أَوْ كَثُرَ ثَمَرُهُ أَرْكَزْتَ) بتاء الخطاب؛ أي: فيلزم أن يقال: كلُّ واحد من الموهوب والرِّبح والتَّمر ركاز فيجب فيه الخمس وليس كذلك، بل الواجب فيه ربع العشر وإن كان يقال فيه: أركز، فالحكم مختلف، وإن اتَّفقت التَّسمية، وإنَّما لا يتوجَّه ذلك إذا قالوا: أركز الرَّجل ولم يقولوا: أركز المعدن؛ لأنَّ معنى أركز الرَّجل صار له ركاز من قطع الذَّهب، ولا يلزم منه إذا وُهِبَ له شيء أن يقال له: أركزت بالخطاب.
          وكذلك إذا ربح ربحاً كثيراً أو كثر ثمرُه، ولو علم المعترض القائل معنى أفعل هنا ما هو لما اعترض ولا أفحش فيه، فمعنى أفعل هنا للصَّيرورة يعني: لصيرورة الشَّيء منسوباً إلى ما اشتقَّ منه الفعل كأغدَّ البعير؛ أي: صار ذا غدة، ومعنى أركز الرَّجل: صار له ركاز من قطع الذَّهب كما مرَّ عن قريب، ولا يقال إلَّا بهذا القيد لا مطلقاً.
          (ثُمَّ نَاقَضَ) أي: بعض النَّاس قوله، ووجه هذه المناقضة على زعمه أنَّه قال أولاً: المعدن ركاز ففيه الخمس (وَقَالَ) ثانياً (لاَ بَأْسَ أَنْ يَكْتُمَهُ) عن السَّاعي حتَّى لا يطالب به (فَلاَ يُؤَدِّيَ الْخُمُسَ) في الرِّكاز وهو متناول للمعدن عنده، قال العيني: وهذا ليس بمناقضة؛ لأنه فهم من كلام هذا القائل غير ما أراده فصدر هذا عنه بلا تأمُّل ولا تروٍّ.
          وبيان ذلك أنَّ الطَّحاوي حكى عن أبي حنيفة أنَّه قال: من وجد ركازاً فلا بأس أن يعطى الخمس للمساكين وإن كان محتاجاً فله أن يأخذه لنفسه قال: وإنَّما أراد أبو حنيفة ☼ أنَّه تأوَّل أنَّ له حقًّا في بيت المال، ونصيباً في الفيء فلذلك له أن يأخذ الخمس لنفسه عوضاً عن ذلك. ولقد صدق الشَّاعر:
وَكمْ مِن عَائبٍ قَولاً صَحِيحاً                     وآفتُهُ منَ الفَهمِ السَّقيمِ
          والكِرماني أيضاً مشى مشيهم في الإلزام الأوَّل المصدر بقوله: قيل له، ولكنه اعترف بأنَّ قول / البخاري أنَّه ناقضه تعسُّف؛ إذ مراده بما حكاه الطَّحاوي أنَّ له أن يأخذها لنفسه عوضاً عمَّا له من الحقوق من بيت المال لا أنَّه أسقط الخمس من المعدن بعدما أوجبه فيه، نقل ذلك عن ابن بطَّال ورضي به، وكذا الحافظ العسقلاني نقل ذلك عن ابن بطَّال لكن قال بعد ذلك: وقد نقل الطَّحاوي المسألة التي ذكرها ابن بطَّال ونقل أيضاً أنَّه لو وجد في داره معدناً، فليس عليه فيه شيء، وبهذا يتَّجه اعتراض البخاري. انتهى.
          وفيه: أنَّ معناه لا يجب عليه شيء في الحال إلَّا إذا حال الحول وكان نصاباً يجب فيه الزَّكاة، وبه قال أحمد. وعند أبي يوسف ومحمَّد: يجب الخمس في الحال، وعند مالك والشَّافعي الزَّكاة في الحال، وهذا مخالف لقوله صلعم : ((لا زكاة في مال حتَّى يحول الحول)).
          هذا، وقال الحافظ العسقلاني أيضاً: والفرق بين المعدن والرِّكاز في الوجوب وعدمه أنَّ المعدن يحتاج إلى عمل ومؤنة ومعالجة لاستخراجه، بخلاف الرِّكاز.
          وتعقَّبه العيني: بأنَّ هذا شيء عجيب؛ لأنَّه ليس بهذا يعرف حقيقة كلَّ واحد منهما ما هي، والفرق بين الأشياء ببيان ماهيَّاتها وحقائقها، والذي ذكره هذا من اللَّوازم الخارجة عن الماهيَّة.
          وقال الزَّين ابن المنيِّر: كأن الرِّكاز مأخوذ من أركزته في الأرض، إذا غرزته فيها، وأمَّا المعدن فإنَّه ينبت في الأرض بغير وضعِ واضع، هذه حقيقتهما، فإذا افترقا في أصلهما فكذلك في حكمهما.