نجاح القاري لصحيح البخاري

باب ما يستخرج من البحر

          ░65▒ (باب) حكم (مَا يُسْتَخْرَجُ مِنَ الْبَحْرِ) هل تجب فيه الزكاة أو لا، ويجوز أن يكون باب بالتنوين والموصول مبتدأ خبره محذوف، وهو قولنا: هل تجبُ فيه الزكاة أو لا، وهو أعمُّ مما يستخرج بسهولة كالموجود بساحله، أو بصعوبة كالموجود بالغوص فيه، والله أعلم.
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ☻ : لَيْسَ الْعَنْبَرُ بِرِكَازٍ) العَنْبَر: بفتح العين المهملة والموحدة، بينهما نون ساكنة، نوع من الطيب وهو غير العَبِيْر، بفتح المهملة وكسر الموحدة وسكون المثنَّاة التحتيِّة، فإنه أخلاط تجمع بالزعفران.
          وقال الكِرمانيُّ: الظاهر أنَّ العنبر زبد البحر، وقال في «القاموس»: هو روث دابَّة بحرية وقيل: إنه شيء ينبت في قعر البحر فيأكله بعض الدَّواب فإذا امتلأت منه قذفته رجيعاً.
          وقال ابن سينا: هو نبع عين في البحر، قال: وما يحكى من أنَّه روث دابَّةٍ، أو قيئها، أو مِن زبد البحر بعيدٌ، وقيل: إنَّه من كور البحر يخرج في السَّيل ببعضِ الجزائر.
          وقال الشَّافعي في كتاب السلم من «الأم»: أخبرني عددٌ ممَّن أثقُ بخبره أنَّه نباتٌ يخلُقه الله في جنباتِ البحرِ، قال: وقيل: إنَّه يأكله حوتٌ فيموت فيلقيه البحر، فيشق بطنه فيخرج منه.
          وحكى ابن رستم عن محمد بن الحسن: أنه ينبت في البحر بمنزلة الحشيش في البرِّ، وقيل: هو شجر ينبت في البحر فينكسر، فيُلقيه الموج إلى السَّاحل
          وقال ابنُ البيطار في «جامعه»: هو روثُ دابَّة تجترُّه.
          وأمَّا الرِّكاز، بكسر الراء وتخفيف الكاف وآخره زاي، فيقال: للمعدن والكنز جميعاً، والمعدن خاصٌّ لما يكون في باطن الأرض خلقة، والكنز خاصٌّ لما يكون مدفوناً.
          وفي «مجمع الغرائب»: الرِّكاز: المعادن، وقيل: هو كنوز الجاهليِّة، وفي «النِّهاية» لابن الأثير: الرِّكاز: كنوز الأرض الجاهليِّة المدفونة في الأرض، وهي المطالب في العرف عند أهل الحجاز، والمعادن عند أهل العراق، والقولان / يحتملهما اللُّغة.
          وقال النَّووي: الرِّكاز بمعنى المركوز كالكتاب بمعنى المكتوب؛ يعني: من رَكَزَ في الأرض إذا أُثْبِتَ أصلُه، والكنز يركز في الأرض كما يُرْكَز الرُّمح.
          (هُوَ شَيْءٌ دَسَرَهُ الْبَحْرُ) أي: دفعه ورمى به إلى السَّاحل. وهذا التَّعليق وصله البيهقي من طريق يعقوب بن سفيان: حدَّثنا الحميدي وابن قعنب وسعيد قالوا: حدَّثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن أذينة قال: سمعت ابن عبَّاس ☻ قال: ليس العنبر بركاز.
          وفي «المصنف»: حدَّثنا وكيع، عن سفيان بن سعيد، عن عمرو بن دينار، عن أذينة، عن ابن عبَّاس ☻ : ليس في العنبر زكاة؛ إنما هو شيء دسره البحر. وأذينة: مصغر أذن، تابعي ثقة.
          فإن قيل: روى ابن أبي شيبة، عن وكيع، عن الثَّوري، عن ابن طاوس، عن أبيه: أنَّ ابن عبَّاس ☻ سئل في العنبر فقال: إن كان فيه شيء ففيه الخمس.
          فالجواب: أنَّه قال البيهقي: علَّق القول فيه في هذه الرِّواية، وقطع بأن لا زكاة في الرِّواية الأولى، والقطع أولى. وقال ابن التِّين: قول ابن عبَّاس قولُ أكثر العلماء.
          فإن قيل: رُوِيَ عن عمر ☺ أنَّه أَخَذَ الخُمُس.
          فالجواب: أنَّه محمول على الجيش يدخلون أرض الحرب فيصيبون الغنيمة في ساحلها، وفيه الخمس لأنه غنيمة.
          (وَقَالَ الْحَسَنُ) هو البصري (فِي الْعَنْبَرِ وَاللُّؤْلُؤِ الْخُمُسُ) واللؤلؤ مطر الرَّبيع يقع في الصَّدف، فعلى هذا أصله ماء ولا شيء في الماء، وقيل: إنَّ الصَّدف حيوان يخلق فيها اللؤلؤ، وفي كتاب «الأحجار» لأبي العبَّاس: إنَّ حيوان الجوهر منه الكبير ويسمَّى الدُّر، ومنه الصَّغير ويسمَّى اللُّؤلؤ، وهذان الحيوان يسمَّى باليونانية أرسطوروس يعلو لحم ذلك الحيوان صدفتان ملتصقتان بجسمه، والذي يلي الصَّدفتين من لحمه أسود، وله فم وأذنان وشحم من داخلها إلى غاية الصَّدفتين، والباقي رغوة وزبد وماء.
          وقيل: إنَّ البحر المحيط يلحق إلى آخره أوَّل البحر المسلوك، وإنَّ الرِّياح تصفق الذي فيه الدُّر في وقت ريح الشَّمال فيصير لموجه رشاش فيلتقمه الصَّدف عند ذلك إلى قعر البحر فيتغرس هناك ويضرب بعروق فيتشعَّب مثل الشَّجر ويصير نباتاً بعد أن كان حيواناً ذا نفس، فإذا تُرِكتْ هذه الصَّدَفة حتَّى يطول مكثها تغيَّرت وفسدت. /
          واللُّؤلؤ، بهمزتين وبواوين وبالواو أولاً والهمزة ثانياً وبالعكس.
          قال النَّووي: أربع لغات، وتعقَّبه العيني: بأنَّه لا يقال لتخفيف الهمزة لغة. وقال ابن قدامة: لا زكاة في المستخرج من البحر كاللُّؤلؤ والمرجان والعنبر ونحوه. وروي نحو ذلك عن ابن عبَّاس ☻ ، وبه قال عمر بن عبد العزيز وعطاء ومالك والثَّوري وابن أبي ليلى والحسن بن صالح وأبو حنيفة ومحمَّد والشَّافعي وأبو ثور وأبو عبيد.
          وعن أحمد روايتان: في رواية أنَّ فيه الزَّكاة؛ لأنَّه خارج من معدن التَّبر، وبه قال أبو يوسف وإسحاق. وروي هذا عن عمر بن عبد العزيز أيضاً، وكذا عن الزُّهري.
          وقال الأوزاعي: إن وجد العنبر في ضفة البحر خمس، وإن غاص عليه في مثل بحر الهند فلا شيء فيه. وروى ابن أبي شيبة، عن وكيع، عن إبراهيم بن إسماعيل، عن أبي الزُّبير، عن جابر قال: «ليس في العنبر زكاة، وإنَّما هو غنيمة لمن أخذه».
          قال البخاري ☼ رادًّا على قول الحسن هذا: (وَإِنَّمَا) وفي رواية: <فإنَّما> بالفاء (جَعَلَ النَّبِيُّ صلعم ) أي: في الحديث الذي يأتي موصولاً عن قريب [خ¦1499] (فِي الرِّكَازِ) الذي هو من دفائن الجاهليِّة في الأرض (الْخُمُسَ لَيْسَ) أي: لا (فِي) الشَّيء (الَّذِي يُصَابُ) أي: يوجد (فِي الْمَاءِ) كالسَّمك؛ لأنَّ الذي يستخرج من البحر لا يسمَّى ركازاً في لغة العرب على ما سيأتي شرحه وتفصيله إن شاء الله تعالى [خ¦1499]، أو لأنَّه قدَّم لفظ في الرِّكاز للحصر ففيه الخمس لا في الذي يوجد في الماء.
          وقال ابن القصَّار: ومفهوم الحديث أنَّ غير الرِّكاز لا خمس فيه، ولا سيَّما اللؤلؤ والعنبر؛ لأنَّهما يتولَّدان من حيوان البحر فأشبها السَّمك. انتهى.