نجاح القاري لصحيح البخاري

باب الرياء في الصدقة

          ░6▒ (بابُ الرِّيَاءِ فِي الصَّدَقَةِ) الرِّياء: مصدر راءيتُ الرجل مُراآة ورياءً؛ أي: خلاف ما أنا عليه، ومنه قوله تعالى في المنافقين: {الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ} [الماعون:6] يعني: إذا صلى المؤمنون صلُّوا معهم يراؤونهم أنَّهم على ما هم عليه.
          وفي «المغرب»: ومن راءى راءى الله به؛ أي: من عمل عملاً لكي يراه النَّاس شهَّر الله رياءه يوم القيامة، وَرَايَا بالياء خطأٌ، والمقصود مِنْ عَقْدِ هذا الباب بيانُ إبطال الرِّياء للصدقة، فيحمل على ما تمحَّض منها لحبِّ المحمَّدة، والثَّناء من الخلق بحيث لولا ذلك لم يتصدَّق بها.
          (لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ} [البقرة:264]) أي: ثواب صدقاتكم وأجور نفقاتكم ({بِالْمَنِّ وَالأَذَى}) المنُّ: أن يعتد على من أحسن إليه، ويريه أنَّه اصطنعه وأوجب عليه حقًّا له، وكانوا يقولون: إذا صنعتُم صنيعة فانسوها / ولبعضهم:
وَإنْ امْرأٌ أسْدَى إِليَّ صَنِيعةً                     وذكَّرَنِيهَا مرَّةً لبَخِيْل
          وفي «نوابغ الكلم»: صنوانٌ: من منح سائله ومنَّ، ومَن منع نائله وضنَّ.
          وفيها أيضاً:
طعْمُ الآلَاءِ أحْلَّى مِنْ المنِّ                     وَهِي أَمرُّ مِنَ الآلَاءِ معَ المنِّ
          والأذى: أن يتطاولَ عليه بسبب ما أزال إليه، وقيل: ترك المنِّ والأذى خيرٌ من نفس الإنفاق.
          وفي «سبحة الأبرار» للمولى عبد الرَّحمن الجامي:
بار فقر أزفنكي أزيك تن                     بارمنت منهش بركردن
جوعطا بخش خدا آمد ولبس                     به كه دانا ننهد منت كسر.
          وفي «صحيح مسلم» من حديث أبي ذرٍّ ☺ قال: قال رسول الله صلعم : ((ثلاثة لا يكلِّمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكِّيهم ولهم عذاب أليم: المنَّان بما أعطى، والمسبل إزاره، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)).
          (إِلَى قَوْلِهِ الْكَافِرِينَ) وفي رواية: <إلى قوله: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}> ولمَّا خاطب الله تعالى المؤمنين بقوله: {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة:264] ونهاهم عنه شبَّه إبطالهم بإبطال المنافق الَّذي ينفق ماله رئاء النَّاس لا يريد بإنفاقه رضي الله ولا ثواب الآخرة، فقال: {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} حتَّى يريد رضا الله {وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ} [البقرة:264] حتَّى يريدَ ثواب الآخرة؛ أي: لا تكونوا مماثلين لهم في عدم وجدان فائدةِ العمل.
          ولا شكَّ أنَّ الذي يُرائي في صدقته أسوء حالاً من المتصدِّق بالمنَّ والأذى؛ لأنَّ المشبَّه به أقوى حالاً من المشبَّه، ولهذا قال تعالى في حقِّ المرائي: {وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ}.
          ثمَّ ضرب مثل ذلك المرائي بإنفاقه بقوله: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ} أي: حجر أملس {عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ} أي: مطرٌ شديد كبير القطر {فَتَرَكَهُ صَلْدَاً} أملس ليس عليه شيءٌ من التراب، ولا ينبت عليه شيء، ثمَّ قال: {لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا} [البقرة:264] ؛ أي: لا يجدون يوم القيامة ثواب شيء ممَّا عملوا كما لا يحصل النَّبات من الأرض الصَّلدة، أو من التراب الَّذي على الصفوان.
          والضَّمير في {يَقْدِرُونَ} للذي ينفق باعتبار المعنى؛ لأنَّ المراد به الجنس، كما في قوله تعالى: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} [التوبة:69] وفي قوله تعالى: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:264] أي: لا يخلق لهم الهداية ولا يدلهم على طريق الجنَّة، أو لا يرشدهم إلى الإسلام والإخلاص ولا يوفِّقهم لدينه بل يخذلهم مجازاة لكفرهم.
          وهذا تعريضٌ بأن الرِّياء والمنَّ والأذى على الإنفاق من صفة الكفَّار، فلا بدَّ للمؤمن أن يجتنبَها.
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ☻ : صَلْداً: لَيْسَ عَلَيْهِا شَيْءٌ) أي: أجرد نقيًّا من التُّراب الذي كان عليه، ومنه صلد جبين الأصلع، إذا برق، وهذا التَّعليق وصله / محمَّد بن جرير، عن محمَّد بن سعد: حدَّثني أبي قال: حدَّثني عمي قال: حدَّثني أبي، عن ابن عبَّاس ☻ في قوله تعالى: {فَتَرَكَهُ صَلْدَاً} ليس عليه شيءٌ. وفي روايةٍ عنه: ((تركها نقيَّة ليس عليه شيء))، وفي أخرى عنه: ((فتركه يابساً خاسئاً لا يُنْبتُ شيئاً)).
          وروى الطبري عن قتادة في هذه الآية قال: هذا مَثَلٌ ضربه الله لأعمال الكفَّار يوم القيامة يقول: لا يقدرون على شيء ممَّا كسبوا يومئذٍ كما ترك هذا المطر الصَّفاء نقيًّا ليس عليه شيء.
          (وَقَالَ عِكْرِمَةُ) مولى ابن عبَّاس ☻ (وَابِلٌ: مَطَرٌ شَدِيدٌ، وَالطَّلُّ: النَّدَى) بفتح النون. وهذا التَّعليق وصله عبدُ بن حميد: عن روح، عن عثمان بن غياث، عن عكرمة: {أَصَابَهَا وَابِلٌ} [البقرة:265] مطرٌ شديد، والطلُّ: النَّدى. وليس في الآية ذِكْر الطلِّ، لكنَّه ذكره استطراداً لوجوده في رواية عكرمة، والله أعلم.