نجاح القاري لصحيح البخاري

باب أي الصدقة أفضل؟

          ░11▒ (بابٌ) بالتنوين (أَيُّ الصَّدَقَةِ) من الصَّدقات (أفْضَلُ) وأعظم أجراً (وصَدَقَةُ الشَّحِيحِ) صفةٌ مشبَّهة من الشُّح بالفتح والضمِّ، والضم أعلى، وهو: البخلُ مع الحرص.
          وقيل: الشُّح: منع الزَّكاة وادِّخار الحرام، وقيل: البخل بالمال، والشُّح: بالمال والمعروف، وصدقةٌ بالرفع معطوف على ما قبله على تقدير: هذا باب يذكر فيه؛ أي: الصَّدقة أفضل ويذكر فيه صدقة الشَّحيح؛ أي: فضل صدقة الشَّحيح.
          (الصَّحِيحِ) الذي لم يعتره مرضٌ مخوِّف ينقطع عنده أمله من الحياة (لِقَوْلِهِ تَعَالَى) في سورة المنافقين ({وَأَنْفِقُوا} [المنافقون:10]) إنفاقاً واجباً، كما يدلُّ عليه سياق الآية، أو المراد الإنفاق العامُّ؛ / أي: أنفقوا وتصدَّقوا في سبل الخير ({مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ}) أي: بعض ما رزقناكم بهِ من الأموال ادِّخاراً للآخرة ({مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ}) أي: من قبل أن يرى دلائل الموت، ويُعاين ما ييأس معه من الإمهال ويتعذَّر عليه الإنفاق، ويفوت وقت القبول (الآيَةَ) أي: اقرأ الآية، وفي بعض الأصول: <إلى خاتمتها> بدل قوله: الآية. وهي قوله تعالى: {فَيَقُول} بالنَّصب والمعنى: فيتحسَّر على المنع، ويعضُّ أنامله على فقد ما كان متمكِّناً منه فيقول: {رَبِّ} أي: خالقي وسيِّدي {لَولَا أَخَّرْتَنِي} أي: هلَّا أخَّرت موتي {إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} أي: إلى زمانٍ قليل {فَأَصَّدَّقَ} أصله فأتصدَّق، فأُدغم وهو منصوبٌ بتقدير أنْ في جواب التَّخصيص {وَأَكُنْ} عطفاً على أصدَّق بحسب المعنى، كأنَّه قيل إن أخَّرتني أصَّدق وأكنْ، ومن قرأ: ▬وأكون↨ بالنَّصب فعلى اللَّفظ {مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون:10] أفعل ما فعله المتصدِّقون.
          وعن ابن عبَّاس ☻ : «تصدَّقوا قبل أن ينزل عليكم سلطانُ الموت فلا تُقبل توبةٌ ولا ينفع عمل». وعنه ☻ : «ما يمنعُ أحدكم إذا كان له مالٌ أن يزكِّي، وإذا أطاق الحجَّ أن يحجَّ من قبل أن يأتيه الموت، فيسأل ربَّه الكرَّة فلا يعطاها».
          وعنه ☺: أنَّها نزلت في مانعي الزَّكاة، ووالله لو رأى خيراً لما سأل الرَّجعة، فقيل له: أما تتَّقي الله يسأل المؤمنون الكرَّة، قال: نعم، أنا أقرأ عليكم به قرآناً يعني: أنَّها نزلت في المؤمنين وهم المخاطبون. وكذا عن الحسن: ما مِن أحدٍ لم يزكِّ ولم يصم ولم يحجَّ إلَّا سأل الرَّجعة.
          (وَقَوْلِهِ) تعالى في سورة البقرة، هو بالجر عطفاً على قوله الأوَّل: ({أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ}) أراد الإنفاق الواجب لاتِّصال الوعيد به بقوله: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:254].
          ({مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ}) لا تقدرون فيه على تحصيل ما فرَّطتم وتدارك ما فاتكُم من الإنفاق؛ لأنَّه ({لاَ بَيْعٌ فِيهِ}) حتَّى تبتاعوا وتحصِّلوا ما تنفقون أو تفتدون به من العذاب (الآيَةَ) وهي قوله تعالى: {وَلَا خُلَّةٌ} [البقرة:254] حتَّى يسامحكم ويعينكم عليه أخلَّاؤكم، قال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] {لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} [طه:109] حتَّى تتَّكلوا على شفعاء يشفعون لكم في حط ما وجب في ذممكُم {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:254] ؛ / أي: التَّاركون للزَّكاة هم الظَّالمون لأنفسهم حيث منعوها، وزعموا أنَّهم نفعوا أنفسهم فوضعوا الشَّيء في غير موضعه، فقال: {وَالْكَافِرُونَ} للتَّغليظ كما قال في آخر آية الحج: {وَمَنْ كَفَرَ} [البقرة:126]مكان: ومن لم يحجَّ، ولأنَّه جعل ترك الزَّكاة من صفات الكفَّار في قوله: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ. الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت:6-7].
          ومناسبة الآيتين للتَّرجمة من حيث إنَّ الآيتين معناهما التَّحذير من التَّسويف بالإنفاق استبعاداً لحلول الأجل، واشتغالاً بطول الأمل، والتَّرغيب في المبادرة بالصَّدقة قبل هجوم المنيَّة وفوات الأمنية، وفي رواية أبي ذرٍّ وقع هكذا: <باب فضل صدقة الشحيح> فأسقط الجملة الأولى الاستفهاميَّة <لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ} إلى {الظَّالِمُونَ} [البقرة:254] {وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [المنافقون:10] > الآية بتقديم آية سورة البقرة على آية سورة المنافقين.