نجاح القاري لصحيح البخاري

باب لا يقبل الله صدقةً من غلول ولا يقبل إلا من كسب طيب

          ░7▒ (بابٌ) بالتنوين (لاَ يَقْبَلُ اللَّهُ صَدَقَةً) ويروى: <الصَّدقة> وفي رواية: <لا تقبل الصَّدقة> على البناء للمفعول (مِنْ غُلُولٍ) بضم الغين المعجمة، هو الخيانة في المغنم، والسَّرقة من الغنيمة قبل القسمة، وكلُّ من خان في شيءٍ خفية فقد غلَّ، وسمِّيت غلولاً؛ لأنَّ الأيدي فيها مغلولة؛ أي: مجعول فيها غلَّ وهي الحديدة الَّتي تجمع يد الأسير إلى عنقه، ويقال لها: جامعة أيضاً.
          وذكر ابن سيده: أنَّه يقال: غلَّ يغلُّ غلولاً من باب نَصَر يَنْصُر، وأغلَّ من باب الإفعال بمعنى خان، أقول: وقد قرئ بهما في القرآن. وفي «الصَّحاح»: يقال: من الخيانة أغلَّ يغلُّ، ومن الحِقْد غلَّ يَغِلُّ من باب ضَرَبَ، ومن الغلول غلَّ يَغُلُّ، بالضم.
          وهذا قطعة من حديثٍ أخرجه مسلم من حديث مصعب بن سعدٍ، قال: دخل عبد الله بن عمر ☻ على ابن عامر يعوده وهو مريضٌ فقال: ألا تدعو الله لي يا ابن عمر، فقال: إنِّي سمعت رسول الله صلعم يقول: ((لا تُقْبَلُ صلاةٌ بغير طهورٍ، ولا صدقة من غلول))، وكنتَ على البصرة.
          قال العينيُّ: كأنَّه قاس الدُّعاء على الصَّلاة، فكما أنَّ الصَّلاة لا تكون إلَّا عن مصونٍ من الأقذار فكذلك الدُّعاء يكون للمصون من تبعات النَّاس، وكنت على البصرة، وتعلَّقت بك حقوق النَّاس، وكأنه ☺ قصد بهذا الزَّجر عليه والحثَّ على التَّوبة.
          وأخرجه الحسن بن سفيان في «مسنده» عن أبي كامل أحد مشايخ مسلم بلفظ: ((لا يقبل الله صلاةً إلَّا بطُهور ولا صدقة من غلول)). وروى أبو داود في «سننه» بلفظ: ((لا يقبل الله ╡ صدقةً من غلول، / ولا صلاة بغير طهور))، قال الحافظ العسقلاني: وإسنادهُ صحيح.
          والطُّهور، بضم الطاء، المراد به الفعل، وهو قول الأكثرين، وقيل: يجوز فتحها، وهو بعمومه يتناول الماء والتُّراب.
          (وَلاَ تُقْبَلُ) على البناء للمفعول (إِلاَّ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ) وهذا للمستملي وحده، وهو طرفٌ من حديث أبي هريرة ☺ الآتي بعده (لِقَوْلِهِ) أي: لقول الله ╡ ({وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276]) وزاد أبو ذرٍّ في روايته بعد قوله: ((إلَّا من كسب طيب)) قوله: <لقوله> ونسب هذه الزِّيادة الحافظ العسقلاني إلى المستملي والكُشْمِيْهَني وابن شبويه <{قَوْلٌ مَعْرُوفٌ}>؛ أي: كلامٌ حسن وردٌّ جميل. وقيل: دعاء صالح يدعو المسؤول للسَّائل إذا أتاه ولم يكن عنده شيء يعطيه، وقيل: دعاء الرجل لأخيه بظهر الغيب، وارتفاع قولٍ على الابتداء، وساغ مع كونه نكرةً؛ لأنَّه تخصَّص بالصفة <{وَمَغْفِرَةٌ}>؛ أي: وعفو عن السَّائل إذا وجد منه ما يثقل على المسؤول، أو ونيل مغفرة من الله بسبب الرَّد الجميل اللَّين، أو وعفو من جهة السَّائل؛ لأنَّه إذا ردَّه رداً جميلاً ودعا له عَذَره وَعَفا عنه، أو وعفو وتجاوز عمَّن أساء إليه وأضرَّه <{خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى}>؛ أي: يعطيها ثمَّ يمنُّ على من يتصدَّق عليه ويستطيلُ عليه، ويقال: وعد المعطي خيرٌ من صدقةٍ يتبعها أذى، ويقال: وعدُ الكريم خيرٌ من نقد اللَّئيم، وقيل: المعنى الدُّعاء بالصَّلاح، والعفو عن ظلم قوليٍّ أو فعليٍّ خير من صدقة يتبعها أذى.
          وقال الضَّحاك: إنْ تمسكْ مالك خيرٌ من أن تنفقه ثمَّ تتبعه منًّا وأذى، ويقال لمَّا علم الله أن الفقير إذا ردَّ بغير نوال يشقُّ عليه، وربَّما يدعو عليه، فحثَّ الله تعالى على الصَّفح والعفو، ثمَّ قال تعالى: <{وَاللَّهُ غَنِيٌّ}> عن صدقة العباد، ولو شاء لأغنى جميع الخلق، ولكنَّه أعطى الأغنياء؛ لينظر كيف شكرهم، وابتلى الفقراء؛ لينظر كيف صبرهم، وإلزاماً للحجَّة عليهم. وقال الزَّمخشري: {غَنِيٌّ} لا حاجة به إلى منفق يمنُّ ويؤذي <{حَلِيمٌ} [البقرة:263] > لا يعجل بالعقوبة على من يستحقَّها ممَّن يمنُّ على صدقته وغيره، وهذا سخط منه ووعيدٌ له، ووجه مطابقة هذه الآية بالتَّرجمة من حيث إنَّ الصَّدقة الَّتي كانت من غلول يتبعها يوم القيامة الأذى بسبب الخيانة.
          وقال شارح التَّراجم: وجه مطابقة الآية للتَّرجمة من حيث إنَّ الأذى بعد الصَّدقة يبطلها، فكيف بالأذى المقارن لها، وذلك أنَّ الغالَّ مُتَصدِّقٌ بمال مغصوب، والغاصب مؤذٍ لصاحب المال عاصٍ بتصرُّفه فيه، فكان أولى بالإبطال.
          وقال الحافظ العسقلاني: والَّذي يظهر أنَّ البخاري ☼ قصد أنَّ المتصدِّق عليه / إذا علم أنَّ المتصدَّق به من غلول أو غصب أو نحوهما تأذَّى بذلك ولم يرضَ به.
          فإن قيل: إنَّ المناسب للتَّرجمة قوله تعالى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة:267] فلم عدل المؤلِّف عنه؟
          فالجواب على ما قاله ابن المنيِّر: إنَّه جرى على عادته في إيثار الاستنباط الخفيِّ على الجليِّ، والاتِّكال في الاستدلال الجليِّ على سبق الأَفهام له، وقد سبقَ وجه الاستنباط آنفاً من وجوه، فتذكَّر.
          ░8▒ (بابٌ) بالتَّنوين، قوله(1) : (الصَّدَقَةُ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ) مبتدأٌ محذوف الخبر؛ أي: مقبولة أو يكثر أجرها، أو بغير تنوين؛ أي: باب فضل الصَّدقة... إلى آخره.
          ولمَّا ذكر في التَّرجمة الأولى قوله: ولا تقبل إلَّا من كسبٍ طيب، تعرض إلى بيان الكسب الطيب بهذه الترجمة الَّتي وقعت في الكتاب في رواية أبي ذرٍّ كما أشرنا إليه، والكسب بمعنى المكسوب.
          والمراد به ما هو أعمُّ ممَّا يحصل بالتَّعاطي كالتِّجارة، أو بغير التَّعاطي كالمال الموروث، أو كأنَّه ذكر الكسب لكونه الغالب في تحصيل المال، والمراد بالطَّيب: الحلال؛ لأنَّه صفة الكسب، قال القرطبي: أصل الطَّيب المستلذ بالطبع، ثمَّ أُطْلِقَ في الشَّرع على الحلال؛ لقوله تعالى {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} [البقرة:276] أي: يذهبه إمَّا بأن يذهب بالكليَّة من يد صاحبه، أو يحرمه بركة ماله فلا ينتفع به، بل يعذبه به في الدُّنيا، ويعاقبه عليه يوم القيامة.
          وروى الإمام أحمد في «مسنده» عن ابن مسعود ☺ عن النَّبي صلعم قال: ((الرِّبا وإن كثر فإنَّ عاقبته تصير إلى قُلٍّ)).
          وهذا من باب المعاملة بنقيض المقصود، ثمَّ إنَّ الله تعالى لمَّا أخبر بأنَّه يمحق الرِّبا لأنَّه حرام وسُحْتٌ محضٌ أخبر أنَّه يربي الصَّدقات فقال: <{وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ}>؛ أي: الَّتي من الكسب الحلال، كما يدلُّ عليه السِّياق من قوله: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا}؛ أي: لكونه حراماً، وقوله تعالى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} وقوله تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة:267] ؛ أي: يزيد فيها ويبارك في الدُّنيا ويُضاعف الثواب في الآخرة. وفي الحديث: ((ما نقص مالٌ من صدقة)) وقوله: ويربي من الإرباء من باب الإفعال، كما في التِّلاوة، وفي نسخةٍ: <ويربِّي> بتشديد الموحدة، من التَّفعيل، وهي خلاف التِّلاوة.
          ({وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ}) أي: لا يرتضي ({كُلَّ كَفَّارٍ}) كفور القلب مصرٍّ على تحصيل الحرام، بل على تحليله ({أَثِيمٍ} [البقرة:276]) في القول والفعل فاجر بارتكاب الحرام.
          ومناسبةُ ختم هذه الآية بهذا الاعتراض التَّذييلي أنَّ المرابي لا يرضى بما قسم الله لهُ من الحلال، ولا يكتفي بما شرع له من التَّكسب المباح، فهو يسعى في أكل أموال النَّاس بالباطل بأنواع المكاسب الخبيثة فهو جَحودٌ لما عليه من النِّعمة، ظَلومٌ آثم بأكل أموال النَّاس بالباطل، ثمَّ مدح الله تعالى المؤمنين بربِّهم المطيعين لأمره، الرَّاضين بما قسم الله لهم، المؤدِّين لشكره، المحسنين إلى خلقه، مخبراً عمَّا أعدَّ لهم من الكرامة والزُّلفى يوم القيامة آمنين من التَّبعات، فقال:
          ({إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا}) بالله ورسله وبما يجب الإيمان به ({وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}) أي: الطَّاعات فيما بينهم وبين ربِّهم والمعاملات الصَّالحة الشرعيَّة المرضيَّة فيما بينهم ({وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ}) من باب عطف الخاص على العام تنْبيهاً لشرفهما على سائر الأعمال الصَّالحة.
          ({لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ}) / عند الموت ({وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:277]) يوم القيامة ولا خوف عليهم من آتٍ، ولا هم يحزنون من فائت، وفي رواية غير أبي ذرٍّ: <{وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة:276] إلى قوله: {وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}>.
          واعترض ابن التِّين وغيرهُ على قول المؤلِّف: لقوله تعالى: {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:267] بعد قوله: الصَّدقة من كسب طيبٍ، بأنَّ تكثير أجر الصَّدقة ليس علَّةً لكون الصَّدقة من كسبٍ طيِّبٍ، بل الأمر على عكس ذلك، فإنَّ الصَّدقة من الكسب الطيِّب سببٌ لتكثير الأجر، والأَبْيَنُ أن يَستدلَّ بقوله تعالى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة:267].
          والجواب عنه ما قاله ابن بطَّال: لما كانت الآية مشتملةً على أنَّ الربا يمحقه الله تعالى؛ لأنَّه حرام دلَّ ذلك على أنَّ الصَّدقة الَّتي تتقبَّل لا تكون من جنس الممحوق، والله أعلم.
          تنبيه: دلَّ قوله: لا تقبل صدقة من غلول، على أنَّ الغالَّ لا يبرأ منه إلَّا بردِّ المغلول إلى أصحابه، ولا يبرأ بأن يتصدَّق به إذا جهلهم مثلاً، والسَّبب فيه أنَّه من حقِّ الغانمين، فلو جهلت أعيانهم لم يكن له أن يتصرَّف فيه بالصَّدقة على غيرهم، ثمَّ إنَّه على رواية أبي ذرٍّ من زيادة: <باب الصَّدقة من كسبٍ طيِّبٍ> تخلو التَّرجمة الَّتي قبل هذا من الحديث، وتكون كالَّتي قبلها في الاقتصار على الآية.
          ثمَّ مناسبة الحديث الآتي لهذه التَّرجمة ظاهرة، وأمَّا مناسبته للَّتي قبلها فمن جهة مفهوم المخالفة، لأنَّه دل بمنطوقه على أنَّ الله لا يقبل إلَّا ما كان من كسب طيِّب، فمفهومه أنَّ ما ليس بطيِّب لا يقبل، والغلول فرد من أفراد غير الطيِّب فلا يُقبل، والله أعلم.


[1] في الأصل: (فقوله).