نجاح القاري لصحيح البخاري

باب: اتقوا النار ولو بشق تمرة

          ░10▒ (بابٌ) بالتنوين (اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ) وهذا لفظ الحديث على ما يأتي إن شاء الله تعالى (وَالْقَلِيلِ مِنَ الصَّدَقَةِ) بالجرِّ عطفاً على مدخول لو؛ أي: ولو بالقليل من الصَّدقة، من عطف العامِّ على الخاصِّ.
          قال الزَّين ابن المنيِّر: جمع المصنِّف بين لفظ الخبر والآية؛ لاشتمال ذلك كلِّه على الحثِّ على الصَّدقة قليلها وكثيرها، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى.
          ({وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ} [البقرة:265]) وقوله: أموالهم يشمل قليل النَّفقة وكثيرها، وهو كقوله صلعم / : ((لا يحلُّ مال امرئ مسلم إلَّا عن طيب نفس)) فإنَّه يتناول القليل والكثير؛ إذ لا قائل بحلِّ القليل دون الكثير.
          ({ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ}) أي: طلباً لرضا الله عنهم، أو مبتغين وطالبين له، لا ينفقونها رياءً، ولا يطلبون بها غير وجه الله تعالى ({وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة:265]) أي: ولأجل تثبيت بعض أنفسهم على الإيمان ببذل المال الَّذي هو شقيق الرُّوح، وبذله أشقُّ شيء على النَّفس من بين العبادات الشَّاقة، فإنَّ النَّفس إذا ريضت بالتَّحامل عليها وتكليفها بما يصعب عليها ذلَّت خاضعة لصاحبها، وقلَّ طمعها في اتِّباعه لشهواتها وبالعكس، فكان إنفاقُ المال تثبيتاً لها على الإيمان واليقين، فمن بذلَ ماله لوجه الله فقد ثبَّت بعض نفسه، ومَن بذل ماله وروحه معاً فهو الَّذي ثبَّتها كلَّها، كما قال تعالى: {وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [الصف:11].
          فعلى هذا، فكلمة (مِنْ) للتَّبعيض، كما في قولهم: هزَّ مِنْ عَطفه وحرَّك مِنْ نَشَاطه، وقال الشَّعبي: معناه: وتصديقاً كائناً من أنفسهم أنَّ الله سيجزيهم على ذلك أوفر الجزاء، فإنَّه إذا أنفق المسلم ماله في سبيل الله عَلِمَ أنَّ تصديقه وإيمانه بالثَّواب من أصل نفسه، ومن إخلاصِ قلبه، وكذا قاله قتادة وأبو صالح وابن زيد، فعلى هذا، كلمةُ مِنْ لابتداء الغاية، كما في قوله تعالى: {حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة:109].
          ويحتمل: أن يكون المعنى: وتثبيتاً من أنفسهم عند المؤمنين أنَّها صادقة الإيمان مخلصة فيه، ويعضده قراءة مجاهد: ▬وتبييناً من أنفسهم↨، وعلى جميع التَّقادير فيه تنبيهٌ على أنَّ حكمة الإنفاق تزكية النَّفس عن البخل وحبُّ المال اللَّذين هما من رذائل النَّفس.
          (الآيَةَ) أي: اقرأ الآية إلى آخرها، وهو قوله تعالى: {كَمَثَلِ جَنَّةٍ} والمعنى: ومثل نفقة هؤلاء المنفقين في زكائها ونمائها عند الله، كمثل بستان من النَّخيل والشَّجر المتكاثف المظلَّل بالتفافِ أغصانه، {بِرَبْوَةٍ} صفة جنَّة؛ أي: كائنةً بمكانٍ مرتفع مستوٍ من الأرض.
          وزاد ابن عبَّاس ☻ والضَّحاك: وتجري فيه الأنهار، وخصَّها؛ لأن الشَّجر فيها أزكى وأحسن ثمراً، يقال: ربى الشَّيءُ يربوا؛ إذا زاد وانتفخ، وفي الربوة ثلاث لغات ضم الراء وفتحها، وبهما قرئت في القرآن، ويجوز كسر الراء أيضاً {أَصَابَهَا} أي: أصابت تلك الجنَّة {وَابِل} أي: مطر عظيم القطر.
          وهذه الجملة في محلِّ الجر صفة ربوة {فَآتَتْ} تلك الجنَّة {أُكُلَهَا} بضمتين ويجوز إسكان الكاف أيضاً؛ / أي: ثمرتها {ضِعْفَين} [البقرة:265] أي: مثلي ما كانت تثمر بسببِ الوابل، ويقال: أي: مضاعفاً تحمل من السَّنة ما تحمله غيرها من السِّنين، والضِّعف قد يُراد به الواحد، كما يراد بالزَّوج، قال الله تعالى: {مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [هود:40]. وقيل: أربعة أمثال، ويجوز أن تكون التَّثنية للتَّكثير كما في قوله تعالى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك:4].
          ونسبة الإيتاء إليها مجازيَّة والفاء سببيَّة {فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا} أي: تلك الجنَّة الَّتي بالرَّبوة {وَابِلٌ فَطَلٌّ} أي: فمطرٌ صغيرٌ القطر يكفيها لكرم منبتها ولطافة هوائها.
          والمعنى: أنَّ نفقة هؤلاء قليلةٌ كانت أو كثيرة لا تبور أبداً، ولا تضيع بحالٍ، بل هي زاكيةٌ نامية عند الله تعالى، وإن كانت تتفاوت باعتبار ما ينضمُّ إليها من الأحوال، كما أنَّ هذه الجنَّة التي بالرَّبوة لا تمحل أبداً؛ لأنَّها إن لم يصبها وابل فطلٌّ، فأيًّا ممَّا كان فهو كفايتها.
          وقال الشَّيخ عزُّ الدِّين بن عبد السَّلام: تقدير الآية: مثل تضعيف أجور الَّذين ينفقون كمثل تضعيف ثمار الجنَّة بالمطر إن قليلاً فقليل، وإن كثيراً فكثير، أو مثل حالهم عند الله بالجنَّة على الربوة، ونفقتهم الكثيرة والقليلة بالوابل والطَّل، وكما أنَّ كل واحد من المطرين يُضعِّف أُكُل الجنَّة، فكذلك نفقتهم كثيرةً كانت أو قليلة بعد أن يُطلب بها وجه الله تعالى، ويبذل فيها الوسع زاكية عند الله زائدة في زلفاهم وحسن حالهم عنده، ثم حذَّر الله المؤمنين عن الرِّياء في أعمالهم والمنِّ والأذى في صدقاتهم، ورغَّبهم على الإخلاص فيها فقال: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة:265] لا يخفى عليه من أعمالهم شيء، وإنَّما قال: بصير دون خبير تنزيلاً لسرائرهم منزلة الظَّواهر لعدم التَّفاوت بالنَّظر إلى الله تعالى، ثمَّ إنَّ قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} لما كان يشعر بالوعيدِ بعد الوعد أوضحه المؤلِّف ☼ بذكر الآية الثَّانية فقال:
          (وَإِلَى قَوْلِهِ) أي: واقرأ إلى قوله تعالى: ({مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [البقرة:266]) يعني قوله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدَكُمْ} الهمزة فيه للإنكار {أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِن نَخِيلٍ} جمع: نخلٍ كعبيد وعبد، وهو جمع نادر {وَأَعنَاب} جمع: عنب، وخصَّهما بالذِّكر وإن كانت تلك الجنَّةُ محتويةً على سائر الأشجار؛ تغليباً لهُما على غيرها، كما يدلُّ عليه قوله تعالى: {مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ} تغليباً لهما على غيرهما؛ لأنَّهما من أكرم الشَّجر وأكثرها منافع {تَجرِي مِن تَحْتِهَا} أي: من تحت أشجارها {الأَنْهَار} فيه التجوُّز في المسند أو في الإسناد، وإلَّا فالجاري في الحقيقة ماؤها {لَهُ فِيهَا} أي: في تلك الجنَّة {مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ} أي: من كلِّ أنواعها. ويجوز أن يرادَ بالثَّمرات المنافع الَّتي تحصل له فيها، وهذه الجملة صفةٌ أخرى للجنَّة. وقوله تعالى: {وَأَصَابَهُ الكِبَرُ} حالٌ بتقدير قد؛ أي: والحال أنَّه قد أصابه كِبر السِّن، وهو كنايةٌ عن العجز عن الكسب فإن الفقر والعيلة في زمان العجز عن الكسب أشدُّ، ويجوز أن تكون الواو للعطف حملاً على المعنى، فكأنَّه قيل: أيودُّ أحدكم لو كانت له جنَّة وأصابه الكبر.
          {وَلَهُ ذُرِّيَةٌ ضُعَفَاء} صغار لا قدرة لهم على الكسب {فَأَصَابَهَا} عطفٌ على أصابه / أو على(تكون) حملاً على المعنى {إِعْصَارٌ} هو الرِّيح التي تستدير في الأرض، ثمَّ تسطع نحو السَّماء كالعمود ملتفَّة في الهواء حاملةٌ للتُّراب.
          {فِيهِ نَارٌ فَاحتَرَقَتْ} [البقرة:266] أي: تلك الجنَّة بهذه النَّار فصارت نعمها إلى الذَّهاب، وأصلها الخراب فكما يبقى هو وذريَّته في الحسرات لتقطُّع الأسباب، فكذا الكافر والمنافق (1) والمنَّان والمؤذي يتحسَّرون على صدقاتهم يوم يقوم الحساب حين فاتهم الثَّواب وحقَّ عليهم العذاب.
          وقال الزَّمخشري: وهذا مثل لمَن يعمل الأعمال الحسنة لا يبتغي بها وجه الله تعالى، فإذا كان يوم القيامة وجدها محبَطةً، فيتحسَّر عند ذلك حسرةَ مَن كانت له جنَّةٌ مِنْ أبهى الجنان وأجمعها للثِّمار فبلغ الكِبر وله أولاد ضعاف، والجنَّة معاشهم ومنتعشهم فهلكت بالصَّاعقة.
          وعن عمر ☺ أنَّه سأل عنها الصَّحابة فقالوا: الله أعلم، فغَضِبَ وقال: قولوا نعلم أو لا نعلم، فقال ابن عبَّاس ☻ : في نفسي شيءٌ منها يا أمير المؤمنين، قال: قل يا ابن أخي ولا تحقِّر نفسك قال: ضرب مثلاً لعمل قال لأي عمل، قال: لرجلٍ عُنِي بعمل الحسنات، ثمَّ بعث الله له الشَّيطان فعمل بالمعاصي حتَّى أغرق أعماله كلها.
          وعن الحسن: هذا مثلٌ، قلَّ والله من يعقله من النَّاس، شيخٌ كبير ضعُف جسمه وكثُر صبيانه، أفقر ما كان إلى جنَّته، وإن أحدكم والله أفقر ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدُّنيا.
          {كَذَلِكَ} أي: كما بيَّن هذه الأمثال {يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآيَاتِ} يضرب الأمثال لأنَّ ضرب المثل أوضح بياناً وأفصح تبياناً لِما فيه من تصوير المعقول بصورةِ المحسوس المُشاهد عياناً {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة:266] بهذه الأمثال وتعتبرون بها وتنزِّلونها على المراد بها، كما قال الله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43].
          وقال بعض المفسِّرين: قوله: {أَيَوَدُّ أَحَدَكُم} [البقرة:266] الآية متَّصلٌ بقوله تعالى: {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة:264] وفي رواية أبي ذرٍّ وقع هكذا: <{وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ} [البقرة:265] إلى قوله: {فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [البقرة:266] >.


[1] والحاصل أنَّ: إنَّ مثل الكافر والمُنافق والمُرائي كمَثل شيخٍ كبيرٍ، وبستان وله أولادٌ صغارٌ ضعفاء عَجزة لا حيلةَ لهم ومعيشة، وكذا معيشة ذريَّته من بستانهِ فأتته السُّموم الحارة فأحرقت بستانهُ، ولم يكن له قوَّة أن يغرس مثل بُستانه ولم يكُن عند ذرِّيته خير يعينونه فيبقى متحيِّراً فكذلك المنافق والمُرائي إذا لقيَ ربَّه أحوج ما كان فلا يجد خيراً ولا يدفع عن نفسه شراً ولا يكون له معينٌ، ولا يعود إلى الدُّنيا كما لا يعود الشَّيخ شابّاً.