نجاح القاري لصحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {لا يسألون الناس إلحافًا}

          ░53▒ (باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً}) أي: إلحاحاً، وهو أن يلازم المسؤول حتَّى يعطيه، من قولهم: لحفني من فضل لحافه؛ أي: أعطاني من فضل ما عنده، فالسَّائل إذا كان ملحاً، فكأنَّه يلصق بالمسؤول فيصير كاللِّحاف له، فجعل ذلك كناية عنه، ومعناه أنَّهم لا يسألون / وإن سألوا عن ضرورة سألوا بتلطُّف ولم يلحُّوا وقيل: هو نفي للسُّؤال والإلحاف جميعاً كقوله:
عَلَى لَاحِبٍ لَا يُهْتَدَى بمَنَارِهِ
          يريد: نفي المنار والاهتداء به.
          وفي الحديث: ((إنَّ الله يحبُّ الحييَّ الحليم المتعفِّف، ويبغض البذيء السَّائل المُلْحف)) وهذا قطعة من آية كريمة في سورة البقرة ستأتي بتمامها إن شاء الله تعالى.
          (وَكَمِ الْغِنَى) أي: أيُّ مقدار الغنى الذي يمنع السُّؤال، وكم هنا استفهامية تقتضي التَّمييز، والتَّقدير كم درهماً. والغِنى، بكسر الغين وبالقصر: ضدُّ الفقر، وإن صحَّت الرِّواية بالفتح وبالمد فهو الكفاية، ولم يذكر في الباب حديثاً صريحاً فيه إمَّا لأنَّه لم يجد ما هو على شرطه، أو اكتفاء بما يستفاد من قوله في الحديث الآتي إن شاء الله تعالى [خ¦1479]: ((ولا يجدُ غنىً يُغنيه)).
          [خ¦1472] وقد تقدَّم في حديث ابن مسعود ☺: ((ما الغنى؟ قال: خمسون درهماً)). وقد تقدَّم أيضاً [خ¦1472] عن سهل بن الحنظليَّة مرفوعاً: ((من سأل وعنده ما يغنيه، فإنَّما يستكثر من النَّار)).
          قال النُّفيلي أحد رواته قالوا: وما الغنى الذي لا ينبغي معه المسألة قال: قدر ما يغدِّيه ويعشيه، رواه أبو داود. وعند ابن خزيمة: أن يكون له شبع يوم وليلة أو ليلة ويوم.
          قال الخطَّابي: اختلف النَّاس في تأويل حديث سهل فقيل: من وجد غداء يومه وعشاءه لم تحلَّ له المسألة، على ظاهر الحديث، وقيل: إنَّما هو فيمن وجد غداءً وعشاءً على دائم الأوقات، فإذا كان عنده ما يَكفيه لقوته المدَّة الطَّويلة حرمت عليه المسألة. وقيل: إنَّه منسوخٌ بالأحاديث التي فيها تقدير الغنى بملك خمسين درهماً أو قيمتها، وبملك أوقية أو قيمتها.
          وتُعقِّب: بأنَّ ادِّعاء النَّسخ مشترك بينهما لعدم العلم بسبق أحدهما على الآخر.
          (وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلعم ) بجر قول عطفاً على ما قبله (وَلاَ يَجِدُ) أي: الرجل (غِنًى يُغْنِيهِ) أي: يقع موقعاً من حاجته، وهذا جزءٌ من حديث أبي هريرة ☺ يأتي في هذا الباب، والظَّاهر أنَّه إنَّما ذكره تفسيراً لقوله: وكم الغنى؛ ليكون المعنى أنَّ الغنى هو الذي لا يجد الرَّجل ما يغنيه إلَّا به.
          وقوله: (لِقَوْلِ الَّلهِ تَعَالَى) تعليل لقوله: ولا يجد غنى يغنيه، فإنَّه تعالى وصف الفقراء بأنَّهم لا يستطيعون ضرباً في الأرض، ومحصِّله أنَّهم لا يجدون غنى يغنيهم ({لِلْفُقَرَاءِ}) الجار متعلِّق بمحذوف؛ أي: اعمدوا للفقراء أو اجعلوا ما تنفقون للفقراء، أو هو خبر مبتدأ محذوفٍ؛ أي: صدقاتكم للفقراء / ({الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}) أحصرهم الجهاد.
          قال ابن عليَّة: كلُّ محيط يَحصُر، بفتح أوله وضم الصاد، وأمَّا الأعذار المانعة تُحصِر فهو، بضم المثناة وكسر الصاد؛ أي: تجعل المرء كالمحاط به.
          ({لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ}) أي: ذهاباً فيها وسفراً للتِّجارة والكسب، فالضَّرب في الأرض هو السَّفر، ومعنى عدم استطاعتهم أنَّهم كانوا يكرهون المسير؛ لئلا يفوتهم صحبة رسول الله صلعم أو لاشتغالهم بالجهاد، وهذا يدلُّ على عدم غناهم؛ إذ من استطاع ضرباً فيها فهو واجد لنوع من الغنى.
          (إِلَى قَوُلِهِ {فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة:273]) يريد الآية بتمامها، وهو قوله تعالى: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ} بحالهم {أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} مستغنين من أجل تعفُّفهم عن المسألة {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} من صفرة الوجه ورثاثةِ الحال، والخطاب للنَّبي صلعم .
          وقيل: لكلِّ راغب في معرفة حالهم: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} وقد مرَّ تفسيره آنفاً قيل: هم أصحاب الصفَّة، وهم كانوا نحواً من أربعمائة رجل من مهاجري قريش لم يكن لهم مساكن في المدينة ولا عشائر، فكانوا في صفَّة المسجد وهي سقيفته يتعلَّمون القرآن باللَّيل ويصومون النَّهار، وكانوا يخرجون في كلِّ سريَّة بعثها رسول الله صلعم ، ثمَّ يرجعون إلى مسجد رسول الله صلعم ومن كان عنده فضل أتاهم به إذا أمسى.
          وعن ابن عبَّاس ☻ : وقف رسول الله صلعم يوماً على أصحاب الصفَّة فرأى فقرهم وجهدهم وطيب قلوبهم فقال: ((أبشروا يا أصحاب الصفَّة، فمن بقي من أمَّتي على النَّعت الذي أنتم عليه راضياً بما فيه، فإنَّه من رفقائي)).
          {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ} من أبواب القربات {فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة:273] لا يخفى عليه منه شيء، وسيُجْزى عليه أَوفى الجزاء وأتمَّه يوم القيامة، أحوج ما يكون إليه فهو ترغيب في الإنفاق خصوصاً على مثل هؤلاء، وسقط قوله: {لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ} في بعض الرِّوايات.