نجاح القاري لصحيح البخاري

باب صدقة السر

          ░13▒ (بابُ صَدَقَةِ السِّرِّ) ولم يذكر في هذا الباب إلَّا الحديث المعلَّق والآية الكريمة (وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ ☺ عَنِ النَّبِيّ صلعم صلعم : وَرَجُلٌ) الواو للعطف على ما ذُكر قبله في الحديث الَّذي ذكره البخاري موصولاً في بابُ جلس في المسجدِ ينتظر [خ¦660]، الصَّلاة وذكره أيضاً في الباب الثَّالث بعد هذا الباب وهو باب الصَّدقة باليمين [خ¦1423].
          (تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا، / حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا صَنَعَتْ) وفي رواية الكُشْمِيْهنيِّ: <ما تُنفق> (يَمِينُهُ) وهذا كما قاله ابن بطَّال مثالُ ضَرَبَه صلعم في المبالغة في الاستتار بالصَّدقة لقرب الشِّمال من اليمين، أو أراد صلعم أن لو قدر أن لا يعلم مَن يكون على شماله من النَّاس لفعل، فيكون من مجازِ الحذف؛ لأنَّ الشِّمال لا توصف بالعلم.
          وألطف منه ما قاله ابن المنيِّر: يُراد لو أمكن أن يخفي صدقته عن نفسه لفعل، فكيف لا يخفيها عن غيره، والإخفاء عن النَّفْس يمكن باعتبار وهو أن يتغافلَ المتصدِّق عن الصَّدقة ويتناساها حتَّى ينساها، وهذا ممدوحٌ عند الكرام شرعاً وعرفاً.
          (وَقَوْلُهُ) ╡ يروى بالرفع وبالجر، أمَّا الجر فبالعطف على مدخول الباب، وأمَّا الرفع فبالعطف على الباب ({إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ} [البقرة:271]) أي: إن تظهروها وتؤتوها علانيةً ({فَنِعِمَّا هِيَ}) فيه قراءات محلها كُتب القراءة؛ أي: فنعم شيئاً هذه الصَّدقات المبداة.
          ({وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ}) أي: تعطوها مع الإخفاء ({فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} الآيَة) أي: اقرأ الآية، وتمامها {وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِن سَيِّئَاتِكُمْ} أي: نكفر عنكم بدل الصَّدقات بعض ذنوبكم {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة:271] لا يخفى عليه شيء من ذلكم وسيجزيكم عليه، وفي رواية: <وقال الله تعالى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُم}>.
          وفي «تفسير ابن كثير»: قوله: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ} الآية. فيه دليلٌ على أنَّ إسرار الصَّدقة أفضل من إظهارها؛ لأنَّه أبعد عن الرياء، إلَّا أن يترتب على الإظهار مصلحةٌ راجحةٌ من اقتداء النَّاس به، فيكون أفضل من هذه الحيثية، قيل: نزلت هذه الآية لمَّا سألوا النَّبي صلعم صلعم صدقة السرِّ أفضل أم الجهر؟
          وقال الطَّبري: وروى ابن عبَّاسٍ ☻ أنَّ قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ} إلى قوله: {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:271-274] كان هذا يعمل به قبل أن تنزل براءة، فلمَّا نزلت براءة بفرائض الصَّدقات ترك العمل بهذا، وعن ابن عبَّاس ☻ : جعل الله صدقة السِّر في التطوع تفضل علانيتها سبعين ضعفاً، وجعل صدقة الفريضة علانيتها تفضل سرَّها بخمسة وعشرين ضِعفاً، وكذلك جميع الفرائض والنَّوافل في الأشياء كلِّها، وقال سفيان: هو سوى الزَّكاة.
          وقال آخرون: إنَّما عنى الله جلَّ ثناؤه بقوله: / {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ} يعني: على أهل الكتابين من اليهود والنَّصارى {فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}، قالوا: فأمَّا من أعطى فقراء المسلمين من زكاةٍ أو صدقةٍ أو تطوُّع فإخفاؤه أفضل، ذكر ذلك يزيد بن أبي حبيب.
          ونقل الطَّبري وغيره الإجماع على أنَّ الإعلان في صدقة الفرض أفضل من الإخفاء، وصدقةُ التَّطوع على العكس من ذلك، ونقل أبو إسحاق الزَّجاج: أنَّ إخفاء، الزَّكاة في زمن النَّبي صلعم كان أفضل، فأمَّا بعده فإنَّ الظنَّ يُساء بمن أخفاها، فلهذا كان إظهار الزَّكاة المفروضة أفضل، وقال ابن عطيَّة: ويشبه في زماننا أن يكون الإخفاء بالصَّدقة أفضل فقد كثر المانع لها، وصار إخراجها عرضةً للرِّياء.
          وروى ابن أبي حاتم بسنده إلى عامر الشعبي في قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} [البقرة:271]. قال: أُنزلت في أبي بكر وعمر ☻ أمَّا عمر ☺ فجاء بنصف ماله حتَّى دفعه إلى النَّبي صلعم فقال له النَّبي صلعم : ((ما خلَّفت وراءك لأهلك يا عمر؟)) قال: خلَّفت لهم نصف مالي، وأمَّا أبو بكر ☺ فجاء بماله كلِّه؛ فكاد أن يخفيَه من نفسه حتَّى دفعه إلى النَّبي صلعم فقال له النَّبي صلعم : ((ما خلَّفت وراءك يا أبا بكر؟)) فقال: عدة الله وعدة رسوله، فبكى عُمر ☺، وقال: بأبي أنت يا أبا بكر، والله ما استبقنا إلى بابِ خيرٍ قطُّ إلا كُنْتَ سابقاً.
          والحاصل أنَّ الإسرار أفضل لهذه الآية، ولِما في «الصَّحيحين» من حديث أبي هريرة ☺ ((سبعةٌ يظلُّهم الله)) الحديث.
          وروى الإمام أحمد بسنده عن أنس بن مالك ☺: عن النَّبي صلعم قال: ((لمَّا خلق الأرض جعلت تميد فخلقَ الجبال فألقاها عليها فاستقرَّت، فتعجَّبت الملائكة من خلق الجبال، فقالت: يا ربِّ، فهل مِن خلقك شيءٌ أشدُّ من الجبال؟ فقال: نعم الحديد، قالت: يا ربِّ فهل من خلقك شيءٌ أشدُّ من الحديد؟ قال: نعم النَّار، قالت: يا ربِّ فهل من خلقك شيء أشدُّ من النَّار؟ قال نعم: الماء، قالت: يا ربَّ فهل من خلقك شيء أشدُّ من الماء؟ قال: نعم الرِّيح، قالت: يا ربِّ فهل مِن خلقك شيء أشدُّ من الرِّيح؟ قال: نعم ابن آدم يتصدَّق بيمينه فيُخفيها من شِماله)). /