إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها

          5090- وبه قال: (حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ) هو ابنُ مُسَرهِدٍ قال: (حَدَّثَنَا يَحْيَى) بنُ سعيدٍ القطَّان‼ (عَنْ عُبَيْدِ اللهِ) بضم العين، ابنِ عمر العمريِّ، أنَّه (قَالَ: حَدَّثَنِي) بالإفراد (سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ) كيسانَ (عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺ ، عَنِ النَّبِيِّ صلعم ) أنَّه (قَالَ: تُنْكَحُ المَرْأَةُ(1)) بضم التاء وفتح الكاف مبنيًّا للمفعول، و«المرأةُ» رفع به (لأَرْبَعٍ) من الخصالِ (لِمَالِهَا) بدل من السَّابقِ بإعادةِ العاملِ لأنَّها إذا كانَت ذاتَ مالٍ لا(2) تكلِّفُه(3) في الإنفاقِ وغيرِه فوقَ طاقتهِ. وقول المهلَّبِ: إنَّ في الحديثِ دليلًا على أنَّ للزَّوجِ الاستمتاعَ بمالِ زوجتهِ، فإن طابَت نفسُها بذلك حلَّ له، وإلَّا فلهُ من ذلك قدر ما بذلَ لها من الصَّداقِ. تُعقِّب بأنَّه ليسَ في الحديثِ ما ذكره من التَّفصيلِ، ولم ينحصِر قصدُه في الاستمتاعِ بمالِها، فقد يقصدُ ترجِّي حصولِ ولدٍ منها، فيعودُ إليه مالها بالإرثِ، أو أن تستغنِي عنه بمالِها عن مطالبتِهِ بما يحتاجُ إليه غيرُها من النِّساء كما مرَّ، وأما استدلالُ بعض المالكيَّة به على أنَّ للرَّجلُ أن يحجرَ على زوجتهِ في مالِها معلِّلًا بأنَّه إنَّما تزوَّجها لمَالِها فليسَ لها تفويتُهُ؛ ففيهِ نظرٌ لا يخفى (وَ) تنكحُ المرأةُ أيضًا (لِحَسَبِهَا) بإعادةِ الجارِ أيضًا، وفتح الحاء(4) والسين المهملتين ثم موحدةٌ، أي: لشرفِها، والحسبُ في الأصلِ الشَّرفُ بالآباءِ وبالأقاربِ، مأخوذٌ من الحسابِ لأنَّهم كانُوا إذا تفاخرُوا عدُّوا مناقِبَهم ومآثر آبائهِم وقومِهِم وحسبُوها، فيُحكم لمن زادَ عددُه على غيرِه، وقد(5) قال أكثَم بن صيفيٍّ: يا بني تميم، لا يغلبنَّكُم جمالُ النِّساءِ على صراحةِ الحسبِ(6)، فإنَّ المناكحَ الكريمةَ مدرجةٌ للشَّرفِ.
          وقال بكيرٌ الأسديُّ / :
وأوَّلُ خُبْثِ المرءِ خُبْثُ تُرابِهِ                     وأوَّلُ لُؤمِ المرْءِ لُؤمُ المَنَاكحِ
          وقال آخرُ:
إِذَا كنْتَ تَبْغي أيِّمًا بجَهَالةٍ                     منَ النَّاسِ فانظُرْ مَنْ أَبُوها وخَالُها
فإنَّهُمَا مِنْها كمَا هيَ(7) مِنْهُما                     كَقَدِّكَ نَعْلًا إنْ أُرِيد مِثَالُها
ولَا تَطْلبِ البيْتَ الدَّنِيءَ فِعَالُه                     ولَا يَدْعُ ذَا عَقْلٍ لوَرْهَاء مَالُها
فإنَّ الَّذِي تَرْجو منَ المَالِ عِنْدَها                     سَيأتي عَلَيه شُؤمُها وخَبَالُها
وقيل: المراد بالحسبِ المالُ، ورُدَّ بذكرِ المالِ قبله وعطفه عليهِ، وعند النَّسائيِّ وصحَّحه ابن حبَّان والحاكمُ من حديث بريدةَ رفعه: «إنَّ أحسابَ أهلِ الدُّنيا الَّذي يذهبونَ إليهِ المالُ». وفي حديث ميمونة المرفوع _ممَّا صحَّحه التِّرمذي والحاكم_: «الحسَبُ المالُ، والكَرَمُ التَّقوَى» وحملَ على أنَّ المرادَ أنَّ المالَ حسبُ من لا حسبَ له. وروى‼ الحاكمُ حديث: «تخيَّرُوا لنُطفِكُم» فيكرهُ نكاح بنت الزِّنا، وبنتِ الفاسقِ.
          قال الأذرعيُّ: ويشبهُ أن تلحقَ بهما اللَّقيطةُ ومن لا يعرفُ أبوهَا (وَ) تُنكحُ أيضًا لأجلِ (جَمَالِهَا) ولم يعدِ العامل في هذهِ(8)، والجمالُ مطلوبٌ في كلِّ شيءٍ، لاسيَّما في المرأةِ التي تكونُ قرينةً وضجيعةً، وعند الحاكمِ حديث: «خيرُ النِّساءِ من تُسَرُّ إذا نظرْتَ، وتُطيعُ إذا أمَرْتَ».
          قال الماورديُّ: لكنَّهم كَرِهوا ذاتَ الجمالِ الباهرِ فإنَّها تزهُو بجَمَالها.
          (وَ) تنكحُ(9) (لِدِينِهَا) بإعادة اللَّام، وفي مسلمٍ بإعادتها في الأربعِ، وحذفت هنا في قوله: «وجمالها» فقط (فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ) ولمسلمٍ من حديث جابرٍ: «فعليكَ بذاتِ الدِّينِ»، والمعنى _كما قال القاضِي ناصر الدِّين(10) البيضاويُّ_: إنَّ اللائِقَ بذوي المروءاتِ وأربابِ الدِّياناتِ أن يكون الدِّينُ مطمح نظرِهِم في كلِّ شيءٍ، لاسيَّما فيما يدومُ(11) أمرهُ ويعظُمُ خطرهُ، فلذا اختارهُ صلعم بآكد وجه وأبلغه، فأمرَ بالظَّفر الَّذي هو غايةُ البغيةِ، ومُنتهى الاختيارِ والطَّلبِ، الدَّال على تضمُّنِ المطلوبِ لنعمةٍ عظيمةٍ وفائدةٍ جليلةٍ.
          وقال في «شرح المشكاة»: قوله: «فاظفَرْ» جزاء شرط محذوفٍ، أي: إذا تحقَّقتَ ما فصَّلْتُ لك تفصيلًا بيِّنًا فاظفَر أيُّها المسترشِدُ بذاتِ الدِّينِ فإنَّها تكسبكُ منافعَ الدَّارينِ، قال: واللَّاماتُ المكرَّرةُ مؤذنةٌ بأنَّ كلًّا منهنَّ مستقلَّة في الغرضِ. وروى ابن ماجه حديثَ ابن عمر مرفوعًا: «لا تزوَّجُوا النِّساء لحُسْنِهنَّ، فعَسَى حُسْنهنَّ أنْ يُرْدِيَهنَّ _أي(12): يهلكهُنَّ_ ولا تزوَّجُوهنَّ لأموالِهِنَّ، فعَسَى أموالهنَّ أن تطغيهُنَّ(13)، ولكن تزوَّجُوهنَّ على الدِّينِ، ولأمةٌ سوداءُ ذاتُ دينٍ أفضَلُ»(14).
          (تَرِبَتْ يَدَاكَ) أي: افتقرتَا إن خالفْتَ ما أمرتُكَ به، يقال: تربَ الرَّجلُ إذا افتقرَ، وهي كلمةٌ جاريةٌ على ألسِنَتِهم لا يريدونَ بها حقيقَتَها(15). وقيل: فيه تقديرُ شرطٍ كما مرَّ، ورجَّحه ابن العربيِّ لتَعَدِّيهِ ذواتِ الدِّين إلى ذواتِ الجمالِ والمالِ، ورجِّح عدمُ إرادةِ الدُّعاءِ عليه، وذلك لأنُّهم كانُوا إذا(16) رَأوا مِقدَامًا في الحربِ أَبلى بلاءً حسنًا يقولون: قاتلَهُ اللهُ ما أشجَعهُ! وإنَّما يريدونَ به ما يزيدُ قوَّتهُ وشجاعتَهُ، وكذلك ما نحنُ فيه، فإنَّ الرجلَ إنَّما يؤثرُ تلكَ الثَّلاثة على ذاتِ الدِّينِ لإعدامها مالًا وجمالًا وحسبًا، فينبغي أن يحملَ الدُّعاء على ما يجبرُ عليه من الفقرِ، أي: عليكَ بذاتِ الدِّينِ يُغنك الله، فيوافقُ معنَى الحديثِ النَّصَّ التَّنزيليَّ: {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ}[النور:32] والصالحُ هو صاحبُ الدِّينِ، قاله في «شرح المشكاة».
          وفي الحديث _كما قال النَّوويُّ‼_ الحثُّ على مصاحبةِ أهلِ الصَّلاحِ في كل شيءٍ لأنَّ من صاحبَهُم استفادَ من أخلاقِهِم وبركتِهِم وحسنِ طرائقِهِم، ويأمنُ المفسدةَ(17) من جهتِهِم.
          وحكى محيي السُّنَّة: أنَّ رجلًا قال للحسنِ(18): إن لِي بنتًا أحبُّها، وقد خَطبها غيرُ واحدٍ، فمَن ترى أن أزوِّجَها؟ قال: زوِّجهَا رجلًا يتَّقِي الله؛ فإنَّه إن أحبَّها أكرَمَها، وإن أبغَضَها لم يظلِمْها.
          قال الغزاليُّ في «الإحياء»: وليسَ أمرهُ صلعم بمراعاةِ الدِّينِ نهيًا عن مراعاةِ الجمالِ(19)، ولا أمرًا بالإضرابِ عنهُ، وإنما هو نهيٌ عن مراعاتهِ مجرَّدًا عن الدِّين، فإنَّ الجمالَ في غالبِ الأمرِ يرغبُ الجاهلَ / في النِّكاح، دونَ التفاتٍ إلى الدِّينِ ولا نظرٍ إليهِ، فوقعَ النَّهيُ عن هذا. قال: وأمرُ النَّبيِّ صلعم لمن يريدُ التَّزوج بالنَّظرِ إلى المخطوبةِ يدلُّ على مراعاةِ الجمالِ، إذ النَّظرُ لا يفيدُ معرفةَ الدِّين، وإنَّما يعرفُ به الجمالُ أو القبحُ.
          وممَّا يُسْتحبُّ في المرأةِ أيضًا أن تكون بالغةً _كما نصَّ عليه الشَّافعيُّ_ إلَّا لحاجةٍ، كأنْ لا يعفُّهُ(20) غيرُها، أو مَصْلحةٍ كتزوُّجه صلعم عائشةَ.
          وأن تكون عاقلةً. قال في «المهمات»: ويتَّجهُ أن يرادَ بالعقلِ هنا العقلُ العرفيُّ، وهو زيادةُ علَّة مناطِ التَّكليفِ. انتهى. والمتَّجهُ أن يرادَ أعمُّ من ذلك.
          وأن تكون قرابةً غير قريبةٍ لقوله صلعم : «لا تنكِحُوا القرابَةَ القريبَةَ فإنَّ الولدَ يخلَقُ ضَاوِيًا» ذكره في «الإحياء». وقوله: ضَاويًا، أي: نحيفًا لضعفِ الشَّهوة. قال الزَّنجانيُّ: ولأنَّ من مقاصدِ النِّكاحِ اشتباكُ القبائلِ لأجلِ التَّعاضُد واجتماعِ الكلمةِ، وهو مفقودٌ في نكاحِ القريبة. وتوقَّف السُّبكيُّ في هذا الحكمِ لعدم صحَّةِ الحديثِ الدَّال عليه، فقد قال ابنُ الصَّلاح: لم أجدْ له أصلًا معتمدًا(21). قال السُّبكيُّ: فلا ينبغِي إثباتهُ لعدمِ الدَّليل. انتهى. وقال الحافظ زينُ الدِّين العراقيُّ: والحديثُ المذكورُ إنَّما يعرفُ من قولِ عمر أنَّه قال لآلِ السَّائبِ: قد أضويتُم، فانكحوا في الغرائب.
          قال الشَّاعر:
تَخيَّرتُها للنَّسْلِ وهْيَ غَرِيبةٌ                     فقَدْ أَنْجَبتْ، والمُنْجِباتُ الغَرَائبُ
وما ذكر(22) في «الروضة» من أنَّ القريبةَ أَولى من الأجنبيَّةِ هو مقتَضَى كلام الجماعةِ، ولكن ذكر صاحب «البحر» و«البيان» أن الشَّافعيَّ نصَّ على أنَّه يستحبُّ أن لا يتزوَّجَ من عشيرتهِ. ولا يشكلُ ما ذُكر بتزوُّجِ(23) النَّبيِّ صلعم زينبَ مع أنَّها بنتُ عمَّته لأنَّه تزوَّجها بيانًا للجوازِ، ولا بتزوُّجِ عليٍّ فاطمةَ لأنَّها بعيدةٌ في الجملة؛ إذ هي بنتُ‼ ابن عمِّه لا بنت عمِّه، وأن لا تكون ذات ولدٍ لغيرهِ إلَّا لمَصْلحةٍ، كما تزوَّج النَّبيُّ صلعم أمَّ سلمةَ ومعها ولدُ أبي سلمةَ للمصلحةِ، وأن لا يكون لها مطلِّقٌ يرغبُ في نكاحِهَا، وأن لا تكونَ شقراءَ؛ فقد أمرَ الشَّافعيُّ الرَّبيعَ أن يردَّ الغلامَ الأشقرَ الَّذي اشتراهُ له، وقال: ما لقيتُ من أشقرَ خيرًا.
          وحديث الباب أخرجهُ مسلمٌ أيضًا في «النِّكاح»، وكذا أبو داود والنَّسائيُّ.


[1] في (ب): «لمرأة».
[2] في (د): «قد لا».
[3] في (م): «تكلف».
[4] في (م): «الهاء».
[5] «وقد»: ليست في (د).
[6] في (د): «النسب».
[7] في (ص): «أنها».
[8] قوله: «ولم يعد العامل في هذه»: ليس في (د).
[9] في (م) زيادة: «أيضًا».
[10] قوله: «ناصر الدين»: ليس في (م).
[11] في (م): «يدور».
[12] قوله: «يرديهن أي»: ليس في (د).
[13] في (م) و(ص): «يطغيهن».
[14] حديث ضعيف الإسناد، وفي المتن نكارة ظاهرة.
[15] في (م) و(ص): «حقيقته»، وفي (د): «حقيقة الدعاء».
[16] في (د): «وذلك أنهم إذا».
[17] في (م): «المفسدات».
[18] في (ص): «لحسن».
[19] في (م): «للجمال».
[20] في (ب) زيادة: «إلا».
[21] في (م) و(د): «مقيدًا».
[22] في (م) و(د): «ذكره».
[23] في (م): «بتزويج»، وفي (ص): «من تزوج».