إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة}

          ░49▒ (بابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى) ولأبي ذرٍّ: ”╡“: ({وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ}) مهورهنَّ ({نِحْلَةً}[النساء:4]) من نحله كذا إذا أعطاهُ إيَّاهُ ووهبهُ له عن طيبةٍ من نفسهِ نحلة ونحلًا، وانتصابها على المصدرِ لأنَّ النِّحلةَ والإيتاء بمعنى الإعطاءِ، فكأنَّه قال: وانحلوا النِّساءَ صدقاتهنَّ نحلةً، أي: أعطوهنَّ مهورهنَّ(1) عن طيبةِ أنفسكم، قيل: النحلةُ لغة: الهبة من غير عوضٍ، والصَّداقُ تستحقُّهُ المرأةُ اتفاقًا لا على وجهِ التَّبرع من الزَّوج، وأُجيب بأنَّ أبا(2) عبيدة قال: عن طيب نفسٍ بالفريضةِ. وتابعهُ ابن قُتيبةَ. وقال إِلكيا: الخطابُ في {فَانكِحُواْ} للأزواجِ، وإذا كان خطابًا لهم فإنَّما سماهُ عطيَّة ترغيبًا في إيفاءِ صداقِها، وقال بعضُهم: نحلةً اسمُ الصَّداقِ نفسه. وقال آخر: لأنَّ استمتاعه يقابلُ استمتاعَها به، فكان الصَّداقُ(3) من هذه الجهةِ لا مقابل له ولذا لم يكن ركنًا في العقدِ (وَكَثْرَةِ المَهْرِ) بالجر عطفًا على سابقه (وَأَدْنَى) أقل (مَا يَجُوزُ مِنَ الصَّدَاقِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى) ولأبي ذرٍّ: ”╡“ / : ({وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا}) قال في «الكشاف»: هو المالُ العظيمُ، من قنطرتُ الشَّيءَ إذا رفعتَهُ ({فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا}[النساء:20]) وقد روي أنَّ عمر قامَ خطيبًا فقال: أيُّها النَّاس، لا تغالُوا بصداقِ النِّساء، فلو كان مكرمةً في الدُّنيا أو تقوى(4) عند الله لكانَ أولاكم بها رسول الله صلعم ، ما أصدق امرأةً من نسائهِ أكثر من اثنتي عشرةَ أوقيَّةً، فقامتْ إليه امرأةٌ فقالتْ له: يا أميرَ المؤمنين، لمَ تمنعنا حقًّا جعلهُ اللهُ لنا، واللهُ يقولُ: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا} فقال عمر: كلُّ أحدٍ أعلمُ من عمرَ، ثمَّ قال لأصحابه: تسمعونَني أقولُ مثل هذا فلا تنكرونهُ(5) عليَّ حتى تردَّهُ عليَّ امرأةٌ ليست من أعلمِ النِّساءِ. ذكره الزَّمخشريُّ، ورواه عبد الرَّزَّاق من طريق أبي(6) عبد الرَّحمن السُّلميِّ بلفظ: قال عمر: لا تغالُوا في مهورِ النِّساءِ، فقالت امرأةٌ: ليس ذلكَ لك يا عمر، إنَّ الله تعالى يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا} ▬من ذهبٍ↨ قالوا: فكذلك هي(7) في(8) قراءةِ ابن مسعود، فقال عمر: امرأةٌ خاصمَت عمر فخصمتهُ (وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: {أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ}[البقرة:236]) وزادَ أبو ذرٍّ: ”{فَرِيضَةً}“.
          (وَقَالَ سَهْلٌ: قَالَ النَّبِيُّ صلعم ) في قصَّة الواهبةِ لمريدِ(9) تزويجها: التمسْ (وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ) والآية الأولى دالَّةٌ لأكثرِ الصَّداقِ، والحديثُ لأدناه، وهل يتقدَّر أدناهُ أم لا؟ فمذهب الشَّافعيَّة والحنابلةِ أدنَى متموَّل لقوله صلعم : «التمِس ولَو خاتَمًا مِن حَدِيدٍ»‼ والضَّابط: كل ما جازَ أن يكون ثمنًا، وعند الحنفيَّة عشرةُ دراهِمَ، والمالكيَّة ربعُ دينارٍ، فيستحبُّ عند الشَّافعيَّة والحنابلة أن لا ينقص عن عشرة دراهمَ خروجًا من خلاف أبي حنيفة، وأن لا يزيد على خمس مئةِ درهمٍ، كأصدقةِ بناتِ النَّبيِّ صلعم وزوجاتهِ، وأما إصداقُ(10) أم حبيبةَ أربع مئة دينارٍ فكان من النَّجاشيِّ إكرامًا له صلعم ، ويستحبُّ أن يذكرَ المهرَ في العقدِ لأنَّه صلعم لم يُخْلِ نكاحًا عنه، ولأنَّه أدفعُ للخصومةِ، وعلمَ(11) من استحباب ذكره في العقدِ جوازُ إخلاء النِّكاح عن ذكره. للصَّداق أسماء ثمانية مشهورة جمعت في قوله:
صَدَاقٌ ومَهْرٌ نِحْلَةٌ وفَرِيضةٌ                     حِبْاءٌ وأَجْرٌ ثمَّ عَقْرٌ عَلَائقُ
وقيل: الصَّداقُ ما وجب بتسميةٍ(12) في العقدِ، والمهرُ ما وجب بغير ذلك، وسمِّي صداقًا لإشعارهِ بصدقِ رغبةِ باذله في النِّكاحِ، وفي حديث أبي داود: «أدُّوا العَلائقَ». قيل: ما(13) العلائقُ؟ قال: «ما تَراضى عليه(14) الأهلونَ». وقال ابنُ الأثير: واحدُ العلائقِ عِلاقة _بكسر العين_ المهرُ لأنَّهم يتعلَّقون به على الزَّوجِ، والعُقْر _بضم العين وسكون القاف_ لغةً: أصلُ الشَّيء ومكانهُ، فكأنَّ المهرَ أصلٌ في تملُّك عصمةِ الزَّوجةِ، والحِباءُ _بكسر الحاء المهملة بعدها موحدة_ العطيَّةُ، وفي الشَّرعِ: الصَّداق هو ما وجبَ بنكاحٍ، أو وطءٍ، أو تفويتِ بضع قهرًا كرضاعٍ، ورجوع شهود.


[1] «مهورهن»: ليست في (د) و(م).
[2] في (د) و(م) زيادة: «أبا».
[3] في (د): «فكأنه».
[4] في (د) زيادة: «صدقة».
[5] في (د) و(م): «تنكروه».
[6] قوله «أبي» مستدرك من «المصنف» لعبد الرزاق، و«الفتح».
[7] في (ب) و(س): «هو».
[8] «في»: ليست في (م) و(د).
[9] في (م): «لمن يريد».
[10] في (م): «صداق».
[11] في (م): «على».
[12] في (م): «وجبت تسميته».
[13] في (د): «وما».
[14] في (س) و(ص): «به».