إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب من قال: لا نكاح إلا بولي

          ░36▒ (بابُ مَنْ قَالَ: لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ}[البقرة:232]) أي: لا تحبسوهُنَّ. وقال إمامنا الشَّافعيُّ: إنَّ هذه الآية أصرحُ دليلٍ على اعتبار الوليِّ‼، وإلَّا لما كان لعضله معنى، وعبارته في «المعرفة» للبيهقيِّ: إنَّما يؤمر بأن لا يعضُلَ من له سببٌ إلى العضْلِ بأن يكون يتِمُّ به له نكاحُها من الأولياءِ. قال: وهذا أبينُ ما في القرآنِ من أنَّ للوليِّ مع المرأةِ في نفسها حقًّا، وأنَّ على الوليِّ أن لا يعضُلها إذا رضيَتْ أن تنكحَ بالمعروفِ. انتهى.
          وقال البخاريُّ: (فَدَخَلَ(1) فِيهِ) في النَّهي عن العضلِ (الثَّيِّبُ، وَكَذَلِكَ البِكْرُ) لعموم لفظ النِّساء (وَقَالَ) تعالى مخاطبًا للرِّجال: ({وَلاَ تَنكِحُواْ}) أي: أيُّها الأولياءُ مولِّياتكم ({الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ}[البقرة:221] وَقَالَ) ╡: ({وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى}) جمع: أَيِّم ({مِنكُمْ}[النور:32]) ولم يخاطبِ النِّساء، فلا تعقد امرأةٌ نكاحًا لنفسها ولا لغيرها بولايةٍ؛ إذ لا يليق بمحاسنِ العاداتِ دخولها فيه لما قُصد منها من الحياءِ وعدم ذكره أصلًا، وفي حديث ابن ماجه المرفوع: «لا تزوِّج المرأةُ المرأةَ، ولا المرأةُ نفسَها». وأخرجه الدَّارقطنيُّ بإسنادٍ على شرط الشَّيخين، واستنبطَ المؤلِّف الحكم من الآياتِ والأحاديث الآتية لكون الحديث الواردِ بلفظ التَّرجمة ليس على شرطهِ، وقد رواهُ أبو داود والتِّرمذيُّ وابنُ ماجه والحاكم من حديث أبي مُوسى. فلو وطئَ في نكاحٍ بلا وليٍّ بأن زوَّجت نفسها، ولم يحكم حاكمٌ بصحَّته ولا ببطلانهِ لزمهُ مهرُ المثلِ دون المسمَّى لفسادِ النِّكاح، ولحديث التِّرمذيِّ وحسَّنه، وابن حبَّان والحاكم وصحَّحاه: «أيُّما امرأةٍ نكحَت بغيرِ إذنِ وليِّها فنكاحُها باطلٌ، ثلاثًا، فإن دخلَ بها فلها المهرُ بما استحلَّ من فرجِها...» الحديثَ، ويسقطُ عنه الحدُّ لشبهةِ اختلافِ العلماءِ في صحَّته. نعم يعزَّر معتقدُ تحريمهِ لارتكابهِ محرَّمًا، ولا حدَّ فيه ولا كفَّارة. وقال أبو حنيفةَ: لو زوَّجت نفسَها وهي حرَّةٌ عاقلةٌ بالغةٌ، أو وكَّلت غيرها أو توكَّلت به(2) جاز بلا وليٍّ، وكان أبو يوسف أوَّلًا يقول: لا ينعقِدُ إلَّا بوليٍّ إذا كان لها وليٌّ، ثمَّ رجع وقال: إن كان الزَّوج كفؤًا لها جازَ وإلَّا فلا. ثمَّ رجع وقال: جاز سواءٌ كان الزَّوج كفؤًا لها أو لم يكن. وعند محمد ينعقدُ موقوفًا على إجازةِ الوليِّ سواءٌ كان الزَّوج كفؤًا لها(3) أو لم يكن، ويروى رجوعهُ إلى قولهما. واستدلَّ لذلك بقوله تعالى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ}[البقرة:234] وقوله تعالى: {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ}[البقرة:132] وقوله تعالى: {حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}[البقرة:230] فهذه الآياتُ تصرِّح بأنَّ النِّكاح ينعقِدُ بعبارة النِّساء لأنَّ النِّكاح المذكور منسوبٌ إلى المرأة من قوله: {أَن يَنكِحْنَ} و{حَتَّىَ تَنكِحَ}. وهذا صريحٌ بأنَّ النِّكاح صادرٌ منها، وكذا قوله: {فِيمَا فَعَلْنَ} ، وقوله تعالى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا}[البقرة:230] صرَّح بأنَّها هي الَّتي تفعل(4) وهي الَّتي ترجعُ، ومن قال‼: لا ينعقدُ بعبارةِ النِّساء فقد ردَّ النَّص، وقوله صلعم : «الأَيِّمُ أحقُّ بنفسِها من ولِيِّها» متَّفقٌ على صحَّته، واستدلالُهُم بالنَّهي عن العضلِ لا يستقيمُ لأنَّه نهيٌ عن المنعِ عن مباشرتِهَا العقد، فليس له أن يمنعَها المباشرةَ بعدما نهى عنه. وقد قال البخاريُّ: لم يصحَّ في باب النِّكاح حديثٌ دلَّ على اشتراطِ الوليِّ في جوازهِ، ولئن سلِّم يكون محمولًا على الأمة والصَّغيرة. انتهى.


[1] في (م): «تدخل».
[2] في (د) و(م): «له».
[3] «لها»: ليست في (م) و(د).
[4] في (د) و(م): «تفعله».