إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب الأكفاء في الدين

          ░15▒ (بابُ الأَكْفَاءِ فِي الدِّينِ) بفتح الهمزة الأولى، جمع: كُفءٍ _بضم الكاف وسكون تاليها آخره همزة_: المثلُ والنَّظيرُ، يقال: كافأَهُ، أي: ساواهُ، ومنه قوله ╕ : «المؤمِنونَ تتكافَأُ دِمَاؤُهُم، ويسعى بذمَّتِهم(1) أَدنَاهُم» فالكفاءَةُ معتبرةٌ في النِّكاحِ لِمَا روى جابرٌ أنَّه صلعم قال: «ألَّا لا يزوِّجُ النِّساءَ إلَّا الأولياءَ، ولا يُزَوَّجْنَّ من غيرِ الأكفاءِ» ولأنَّ النِّكاحَ يعقدُ(2) للعمرِ، ويشتملُ على أغراضٍ ومقاصدَ، كالازدواجِ والصُّحبةِ والألفَةِ وتأسيسِ القراباتِ، ولا ينتظِمُ ذلك عادةً إلَّا بينَ الأكفاءِ، وقد جزمَ مالكٌ ☼ بأنَّ اعتبارَ الكفاءةِ مختصٌّ بالدِّينِ لقوله ╕ : «النَّاسُ سواءٌ، لا فضلَ لعربيٍّ على عجميٍّ، إنَّما الفضلُ بالتَّقوى»، وقال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}[الحجرات:13] وأُجيب بأنَّ المرادَ به في حكمِ الآخرةِ، وكلامُنَا في الدُّنيا. وقال الشَّيخ خليل في «مختصره»: والكفاءةُ الدِّينُ والحالُ. قال شارحُهُ: واعتبر فيها خمسة أوصافٍ(3):
          الدِّينُ: وهو متَّفق عليه، وظاهرُ قولِ «المدوَّنة»: المسلمون بعضُهم لبعضٍ أكفاءٌ، أنَّ الرقيقَ كفءٌ، ونقلهُ عبد الوهاب نصًّا، وعن المغيرة أنَّه يفسخُ، وصحَّحه هو وغيرهُ.
          والنَّسبُ: وفي «المدونة»: المولَى كفءٌ للعربيَّةِ، وقيل: ليسَ بكفءٍ.
          والحالُ: وهو أن يكون الزَّوجُ سالِمًا من العيوبِ الفاحِشةِ.
          والمالُ: فالعجزُ عن حقوقِهَا يوجبُ مقالَها. وقيل: المعتبرُ من ذلكَ كله عند مالكٍ: الدِّينُ والحالُ. وعند ابن القاسم: الدِّينُ والمالُ. وعندهما: المالُ والحالُ. انتهى.
          وخصالُ الكفاءةِ عندَ الشَّافعيَّةِ خمسة: سلامةٌ من عيبِ نكاحٍ: كجنونٍ وجذامٍ وبرصٍ.
          وحرِّيَّة: فمن مسَّهُ أو مسَّ أبًا له أقرب رقٌّ ليس كفءَ سليمةٍ من ذلك لأنَّها تعيَّرُ به، وَخَرَجَ بالآباءِ الأمهاتُ، فلا يؤثِّرُ فيهنَّ مسُّ الرِّقِّ.
          ونَسَبٌ: ولو في العجَمِ لأنَّه من المفاخرِ، فعجميٌّ أبًا وإن كانت أمُّه عربيةً ليسَ كفءَ عربيَّةٍ أبًا وإن كانَت أمُّها أعجميَّة، ولا غيرُ قرشيٍّ من العربِ كفؤًا لقرشيَّةٍ لحديثِ: «قدِّمُوا قريشًا ولا تقدَّمُوها» رواه الشَّافعيُّ بلاغًا، ولا غيرُ هاشميٍّ ومطَّلِبيٍّ كفؤًا لهُما لحديث مسلمٍ: «إنَّ اللهَ اصطفَى كنانَةَ من ولدِ إسماعيلَ، واصطفَى قُريشًا من كنانَةَ، واصطَفَى من قريشٍ بني هاشمٍ واصْطَفاني من بني هاشمٍ(4)» فبنُو هاشمٍ وبنو المطَّلبِ أكفاءٌ لحديث البخاريِّ: «نحنُ وبنُو المطَّلب شيءٌ واحدٌ» [خ¦3140]‼.
          وعفَّةٌ: بدينٍ وصلاحٍ، فليسَ فاسقٌ كفءَ عفيفةٍ.
          وحرفةٌ: فليسَ ذو حرفةٍ دنيئةٍ كفءَ أرفعَ منه، فنحُو كنَّاس ليس كفءَ بنتِ خيَّاطٍ، ولا خيَّاط بنت تاجرٍ، ولا تاجر بنت عالمٍ، ولا يعتبرُ في خصالِ الكفاءةِ اليسارُ لأنَّ المال غادٍ ورائحٍ، ولا يفتخِرُ به أهلُ(5) المروءاتِ والبصائر. وقال الحنابلة _واللَّفظُ للمرداويِّ في «تنقيحه»_: والكفاءةُ في زوجٍ شرطٌ لصحَّةِ النِّكاحِ عند الأكثرِ، فهي حقٌّ للهِ والمرأةِ والأولياءِ كلِّهم، حتَّى مَن يَحْدُث، ولو زالَتْ بعد العقدِ فلها الفسخُ فقط، وعنه ليست بشرطٍ بل للُّزومِ، واختارَهُ أكثرُ المتأخِّرينَ، وهو أظهرُ، ولمن(6) لم يرضَ الفسخُ من المرأةِ والأولياءِ جميعِهم فورًا وتراخيًا، فهي حقٌّ / للأولياءِ والمرأةِ، وهي: دينٌ، ومنصبٌ _وهو النَّسَب_، وحرِّيَّةٌ، وصناعَةٌ غيرُ زريَّةٍ، ويسارٌ بمالٍ بحسبِ ما يجبُ لها.
          وقال الشَّافعيُّ: ليسَ نكاحُ غيرِ الأكفاءِ حرامًا فأردُّ به النِّكاحَ، وإنَّما هو تقصيرٌ بالمرأةِ والأولياءِ، فإذا رضُوا صحَّ، ويكون حقًّا لهم تركُوه، فلو رضُوا إلَّا واحدًا فلهُ فسخُهُ.
          (وَقَوْلِهِ) ╡: ({وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء}) أي: النُّطفة ({بَشَرًا}) إنسانًا ({فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا}) يريدُ: فقسَّمَ البشرَ قسمين: ذوي نسبٍ، أي: ذكورًا ينسبُ إليهم، فقال: فلانُ ابن فلان وفلانةُ بنت فلان، وذوات صهرٍ، أي: إناثًا يُصاهرُ بهنَّ، وهو كقوله: {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى}[القيامة:39] ({وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا}[الفرقان:54]) حيث خلقَ من النُّطفةِ الواحدةِ بشرًا نوعَين ذكرًا وأنثى، وقيل: {فَجَعَلَهُ نَسَبًا} قرابةً {وَصِهْرًا} أي: مصاهرةً، يعني: الوصلة بالنِّكاحِ من بالأنسابِ(7) لأنَّ التواصُلَ يقع بها وبالمصاهرةِ لأنَّ التوالد يكونُ بها، وسقط لأبي ذرٍّ قوله: «{وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا}» وقال بعد {وَصِهْرًا}: ”الآيةَ“.
          ومرادُ المؤلِّف _ ☼ _ من سياقِ هذه الآية: الإشارةُ إلى أنَّ النَّسبَ والصِّهرَ ممَّا يتعلَّقُ به حكمُ الكفاءةِ، ونقلَ العينيُّ عن ابنِ سيرين أنَّ هذه الآية نزلتْ في النَّبيِّ صلعم وعليٍّ، وزوَّج ╕ فاطمةَ عليًّا، وهو ابنُ عمِّه وزوجُ ابنتِهِ، فكانَ نسبًا وكان صهرًا.


[1] في (م): «في ذمتهم».
[2] في (د): «يقصد».
[3] ذكر أربعة أوصاف، والخامس كما في عبارة بهرام في «تحبير المختصر»: والحرية: وظاهر قوله في المدونة: «والمسلمون بعضهم لبعض أكفاء» دليل على أنَّ الرقيق كفؤ، ونقله عبد الوهاب عن ابن القاسم أيضًا، وعن المغيرة أنه يفسخ، وصححه هو وغيره.
[4] «واصطفاني من بني هاشم»: ليست في (م).
[5] في (ص): «أرباب».
[6] في (م): «لو».
[7] كذا في الأصول، ولعلَّ الصَّواب: «من باب الأنساب».