إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب من قال: لا رضاع بعد حولين

          ░21▒ (بابُ مَنْ قَالَ: لَا رَضَاعَ بَعْدَ حَوْلَيْنِ(1) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ}[البقرة:233]) قال في «الكشاف»: فإن قلتَ: كيف اتصل قوله: {لِمَنْ أَرَادَ} بما قبلهُ؟ قلتُ: هو بيانٌ لمن توجَّه إليه الحكمُ، كقوله تعالى: {هَيْتَ لَكَ}[يوسف:23] بيانٌ للمهيت به(2)، أي: هذا الحكمُ(3) لمن أراد إتمام الرَّضاعِ، وعن قتادة: حولينِ كاملينِ، ثمَّ أنزلَ الله اليُسر والتَّخفيفَ فقال: {لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} أراد أنَّه يجوز النُّقصان. وعن الحسن: ليس ذلك بوقتٍ لا ينقصُ منه بعد أن لا يكون في الفطامِ ضررٌ، وقيل: اللَّام متعلِّقةٌ بيرضعنَ، كما تقول: أرضعتُ فلانة لفلانٍ ولده، أي: يرضعنَ حولينِ لمن أراد أن يتمَّ الرَّضاعةَ من الآباءِ لأنَّ الأبَ يجبُ عليه إرضاع الولدِ دون الأمِّ، وعليه أن يتَّخذَ له(4) ظِئرًا إلَّا إذا تطوَّعتِ الأمُّ بإرضاعهِ، وهي مندوبةٌ إلى ذلك ولا تجبرُ عليه. انتهى.
          فقد جعلَ الله تعالى تمام الرَّضاعةِ في الحولينِ، فأشعر بأن الحكمَ بعدهما بخلافهِ لأنَّ الولدَ يستغنِي غالبًا بغير اللَّبنِ، ولا يشبعهُ بعد ذلك إلَّا اللَّحم والخبز ونحوهما. وفي حديثِ ابن مسعودٍ عند أبي داود: «لا رضاعَ إلَّا ما شدَّ العظمَ وأنبتَ اللَّحم» وهو عنده أيضًا مرفوعٌ بمعناه، وقال: «أنشزَ العظمَ».
          وقد ورد ظواهرُ أحاديث تمسَّك بها العلماء، فذهب الشَّافعيُّ والجمهور إلى إناطةِ الحكمِ بالحولين بالأهلَّة من تمام انفصالِ الولد. وعن أبي حنيفة إناطتُهُ بحولينِ ونصفٍ. وعن(5) زفر بثلاثةٍ، وعن مالكٍ بزيادة أيَّام بعد الحولين، وعنه بزيادة شهرٍ وشهرين، ورواية بثلاثةِ أشهرٍ؛ لأنَّه يغتفرُ بعد الحولينِ مدَّة يدمنُ فيها الطِّفلُ على الفِطامِ(6) لأنَّ العادةَ أنَّ الطِّفلَ لا يفطمُ دفعةً واحدةً بل على التَّدريجِ، وقيل: لا يزادُ على الحولينِ، وهو رواية ابنِ وهبٍ عن مالك، وبه قال الجمهورُ لحديث ابن عبَّاسٍ عند الدَّارقطنيِّ مرفوعًا: «لا رضاعَ إلَّا ما كانَ في الحولينِ»، وللتِّرمذيِّ وحسَّنه: «لا رضاعَ إلَّا ما فتقَ الأمعَاءَ وكان قبلَ الحولينِ».
          وأما حديث سَهلة السَّابق بعضهُ في «باب الأكفاءِ في الدِّين» [خ¦5088] أنَّها قالت: يا رسولَ الله، إنَّا كنَّا نرى سالمًا ولدًا، وقد أنزلَ الله فيه ما قد علمتَ، فماذا تأمُرني(7)؟ فقال: «أرضعِيهِ خمسَ رضعاتٍ يحرمُ بهنَّ عليكَ» ففعلتْ، فكانت تراهُ ابنًا فأجابَ عنه الشَّافعيُّ وغيره بأنَّه مخصوصٌ بسالمٍ. قال القاضِي: ولعلَّ سهلةَ حلبَت لبنَها فشربهُ(8) من غيرِ أن يمصَّ ثديَها‼، ولا التقَت بشرتاهُما. قال النَّوويُّ: وهو حسنٌ، ويحتملُ أنَّه عفيَ عن مسِّهِ للحاجةِ، كما خصَّ بالرَّضاعة مع الكبرِ(9). انتهى.
          وظاهر قوله صلعم : «أرضعيه» يقتضي ذلك لا الحلبَ، وقد نقل التَّاج ابن السُّبكي: أنَّ والدهُ قال لامرأةٍ أرادَتْ أن تحجَّ مع كبيرٍ أجنبيٍّ: أرضعيهِ تحرمِي عليهِ. وفيه دلالةٌ على أنَّه كان يرى مذهبَ عائشة، فإنَّها كانت تأمرُ بناتِ إخوتِها وأخواتِها أن يرضعنَ من أحبَّت عائشةُ أن يَراها ويدخلَ عليها _وإن كان كبيرًا_ خمسَ رضعاتٍ، ثمَّ يدخلُ عليها. وقال ابنُ المنذرِ: لا يخلو أن يكون حديث سهلةَ منسوخًا.
          (وَمَا يُحَرِّمُ مِنْ قَلِيلِ الرَّضَاعِ وَكَثِيرِهِ) تمسُّكًا(10) بعموماتِ أحاديث كحديث الباب، وهو قول مالك وأبي حنيفةَ ومشهورُ مذهب أحمد، وذهب آخرون إلى أنَّ الَّذي يحرِّمُ ما زادَ على رضعةٍ، وورد عن عائشةَ: عشرُ رضعاتٍ. أخرجه مالك في «الموطأ»، وعنها أيضًا: سبعٌ. أخرجه ابنُ أبي خيثمة بإسنادٍ صحيحٍ، وعنها أيضًا كما في مسلمٍ: كان فيمَا أنزلَ من القرآنِ: عشرُ رَضعاتٍ معلوماتٍ، ثمَّ نسخنَ(11) بخمسِ رضعاتٍ محرِّمات، ثمَّ توفِّي رسولُ الله صلعم وهنَّ ممَّا يقرأُ. وإلى هذا ذهبَ إمامُنا الشَّافعيُّ ⌂ .


[1] في (ص) و(م): «الحولين».
[2] وفي (ص): «له»، وليس في (م).
[3] في (ص) زيادة: «بيان».
[4] «له»: ليس في (ب).
[5] في (ب): «من».
[6] في (د): «الطعام».
[7] في (م): «تأمر».
[8] في (ب): «شربه».
[9] في (م): «الكبير».
[10] في (د) و(م): «متمسكًا».
[11] في (م): «نسخت». ولفظ مسلم: «عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس رضعات معلومات».