إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب: هل للمرأة أن تهب نفسها لأحد؟

          ░29▒ هذا (بابٌ) بالتَّنوين: (هَلْ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَهَبَ نَفْسَهَا لأَحَدٍ؟) من الرِّجال على أن‼ ينكحها من غير ذكر صداق، أو مع ذكرهِ؟ أجازهُ الحنفيَّة، لكن قالوا: يجب(1) مهرُ المثل لقوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ}[الأحزاب:50] عطفًا على المُحَلَّلَات في قوله: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ}[الأحزاب:50] وقوله ╕ : «ملَّكْتُكها بما معَكَ من القرآنِ» قالوا: ولا يقال: الانعقادُ بلفظ الهبة خاصٌّ به صلعم بدليل قوله: {خَالِصَةً لَّكَ}[الأحزاب:50] لأنَّا نقول: الاختصاصُ والخلوصُ في سقوط المهر بدليل أنَّها مقابلةٌ بمَن آتى مهرها في قوله تعالى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} إلى قوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً} وبدليل قوله تعالى: {لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ}[الأحزاب:50] والحرج بلزومِ المهر دون لفظ التَّزويج فصار الحاصل: أحللنا لك الأزواج المؤتى مهورهنَّ، والَّتي وهبَتْ نفسها لك فلم تأخُذ مهرًا خالصةً، هذه الخصلةُ لك من دون المؤمنين، أمَّا هم فقد علمنَا ما فرضنَا عليهم في أزواجِهِم من المهر وغيره. وقال الشَّافعيَّة والجمهور: لا ينعقد إلَّا بلفظ التَّزويج أو الإنكاح، فلا ينعقدُ بلفظ البيع والتَّمليكِ والهبة لحديث مسلمٍ: «اتَّقوا الله في النِّساء، فإنَّكم أخذتموهُنَّ بأمانةِ الله واستحلَلْتم فروجهُنَّ بكلمةِ اللهَ»، ولأنَّ النِّكاح ينزعُ إلى العبادات لورود النَّدب فيه، والأذكار في العبادات تتلقَّى من الشَّرع، والشَّرع إنَّما ورد بلفظ التَّزويج والإنكاح، وتعقِّب بأنَّه لا حجَّة في قوله ╕ : «استحلَلتُم فروجهُنَّ بكلمةِ الله» فقد قال ابن الحاجبِ في «الأمالي»: على هذا لو كان المراد لفظ التَّزويج، ولفظ الإنكاح لكان الوجه أن يقال: بكلمتي الله؛ إذ لا يطلقُ المفرد على اثنين إلَّا فيما إذا كان معلومًا بالعادة، كقولهم: أبصرتُهُ بعيني وسمعتُه بأذُني. وأمَّا نحو: اشتريتُه بدرهمٍ، والمراد بدرهمين(2)، فلا قائل به، ولو سلِّم صحَّة إطلاق المفردِ هنا على الاثنين لامتنعَ أيضًا من جهة أنَّه إذا كان المراد اللَّفظ فاللَّفظ الموجود في القرآن إنَّما هو: {فَانكِحُوهُنَّ} ونحو: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ}[الأحزاب:49] و{زَوَّجْنَاكَهَا}[الأحزاب:37] وقد علم أنَّه إذا أخبر عن الكلمةِ باعتبار أنَّه إنَّما يراد صورتها ولفظها مجرَّدة عن معناها أو مع معناها، وقد علم أنَّه لا يقع الإنكاحُ بهذه الألفاظ / على صورتها لا بمجرَّدها ولَا بمعناها المراد بها، ولو سلِّم أنَّ الإنكاح يقعُ بهما، فليس في اللَّفظ ما يشعرُ أنَّه لا استحلالَ إلَّا بذلك، ولو سلِّم أنَّ في اللَّفظ ما يشعرُ بالحصرِ فعندنا ما يأباه وهو أنَّه قد ذكر لفظ المراجعة معبَّرًا به عن التَّزويج. قال الله تعالى: {فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا}[البقرة:230]‼ والمعنى: فإن طلَّقها الزَّوج الثَّاني(3) ثلاثًا فلا جناحَ على الزَّوج الأوَّل، وعلى الزَّوجة المطلَّقة من هذا الثَّاني أن يتراجعَا، فقد عبَّر بالمراجعةِ عن التَّزويج، والمراد: أن يتناكحَا، وذلك يأبى الحصر المسلَّم فيه ظهوره(4) تقديرًا. انتهى.
          وحديث أنَّه صلعم زوَّج امرأةً فقال: «ملكتُكَها بما معَكَ من القرآنِ» قيل: إنَّه وهمٌ من الرَّاوي: وبتقدير(5) صحَّته معارضٌ برواية الجمهور «زوَّجتُكها» قال البيهقيُّ: والجماعة أولى بالحفظِ من الواحد، ويحتملُ أنَّه صلعم جمعَ بين اللَّفظين.


[1] في (د): «يثبت»، وفي (م): «ثبت».
[2] في (ص) و(م): «درهمين».
[3] في (د) و(م): «الأول».
[4] في (د) و(م): «لظهوره».
[5] في (م): «تقدير».