إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: كنا نغزو مع رسول الله وليس لنا شيء

          5075- وبه قال: (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) البلخيُّ قال: (حَدَّثَنَا جَرِيرٌ) هو ابنُ عبد الحميدِ (عَنْ إِسْمَاعِيلَ) بن أبي خالدٍ البجليِّ (عَنْ قَيْسٍ) هو ابن أبي حازمٍ أنَّه (قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ) بن مسعودٍ ☺ : (كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللهِ صلعم وَلَيْسَ لَنَا شَيْءٌ) من المالِ (فَقُلْنَا) أي: لرسول الله صلعم : (أَلَا نَسْتَخْصِي) أي: ألا نستدعِي من يفعلُ بنا الخصَاء، أو نعالجُ ذلك بأنفُسِنا؟ (فَنَهَانَا) صلعم (عَنْ ذَلِكَ) نهي تحريمٍ لِمَا فيه من تعذيبِ النَّفسِ، والتَّشويهِ، وإبطالِ معنى الرُّجوليَّةِ، وتغيير خلقِ الله، وكفر النِّعمةِ لأنَّ خلقَ الشَّخصِ رجلًا من النِّعمِ العظيمةِ، فإذا أزالَ ذلك فقد تشبَّه بالمرأةِ، واختارَ النَّقصَ على الكمالِ (ثُمَّ رَخَّصَ) ╕ (لَنَا) بعد ذلك (أَنْ نَنْكِحَ المَرْأَةَ بِالثَّوْبِ) أي: إلى أجلٍ في نكاحِ المتعةِ (ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْنَا) أي: عبد الله بن مسعودٍ كما في روايةِ مسلمٍ، وكذا الإسماعيليُّ في تفسير المائدة: ({يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ}) ما طابَ ولذَّ من الحلالِ، ومعنى {لاَ تُحَرِّمُواْ} لا تمنَعُوها(1) أنفسكُم كمنعِ التَّحريمِ، أو(2) لا تقولوا: حرَّمناها على أنفُسنا مبالغة منكُم في العزمِ على تركِها تزهُّدًا منكُم وتقشُّفًا. وعن ابن مسعودٍ أنَّ رجلًا قال له: إنِّي حرَّمتُ الفراشَ، فتلا هذه الآية، وقال: نَم على فراشكَ، وكفِّر عن يمينكَ. ودُعيَ الحسنُ إلى طعامٍ ومعهُ فَرْقدٌ السَّبخيُّ وأصحابه(3) فقعدُوا على المائدةِ وعليها ألوانٌ من الدَّجاجِ المسمَّنِ والفالوذَج وغير ذلك، فاعتزَلَ فرقدٌ ناحيةً، فسألَ الحسنُ: أهو صائمٌ؟ قالوا: لا، ولكنَّه يكرهُ هذه الألوانَ، فأقبلَ الحسنُ عليه وقال: يا فُريقِد(4)، أترى لُعابَ النَّحلِ بلبابِ البرِّ بخالصِ السَّمنِ يعيبُهُ مسلمٌ؟ ({وَلاَ تَعْتَدُواْ}) أي: لا تَتجاوزُوا الحدَّ الذي حدَّ عليكُم في تحريمٍ أو تحليلٍ، أو ولا تتعدوا حدودَ ما أحلَّ لكُم إلى ما حرَّمَ عليكُم ({إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}[المائدة:87]) حدُودَه. قال الرَّاغب: لمَّا ذكر الله تعالى حالَ الَّذين قالُوا: إنَّا نَصارى، ذكر أنَّ منهم قسِّيسينَ ورُهبانًا، فمدحَهم بذلك، وكانَت الرُّهبان(5) قد حرَّمُوا على أنفُسهم طيِّباتِ ما أحلَّ اللهُ لهم، ورأى الله تعالى قومًا تشوَّفُوا إلى حالِهِم / وهمُّوا أن يقتدُوا بهم نهاهُم عن ذلك.
          فإن قلتَ: لِمَ لم يقل: واللهُ يبغضُ المعتدينَ ليكونَ أبلغَ(6)؟ أُجيب بل(7) المذكورُ أبلغُ لأنَّ من المعتدينَ من لا يوصفُ بأنَّ اللهَ يبغضهُ، ويوصفُ بأنَّ اللهَ لا يحبُّهُ، وهو من لم يكُن اعتداؤهُ(8) كثيرًا. قال في «الفتح»: فظاهِرُ(9) استشهادِ ابن مسعودٍ بهذه‼ الآية هنا يشعرُ بأنَّه كانَ يرى جواز(10) المتعةِ، ويأتي إن شاء الله تعالى البحثُ في ذلك بعونِ الله تعالى وقوَّته.


[1] في (ب): «تمنعوا».
[2] في (ص): «و».
[3] «وأصحابه»: ليس في (ص).
[4] في (م): «فرقد».
[5] في (س): «الرهابنة»، وفي (ص): «الرهبانيَّة»، وفي (م): «الرهبانة».
[6] قوله: «ليكون أبلغ»: ليس في (د).
[7] في (د): «بأن».
[8] في (ب) و(ص): «أعداؤه».
[9] في (ب) و(س): «وظاهر».
[10] في (د) و(ص): «بجواز».