إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: بينما أنا نائم أطوف بالكعبة فإذا رجل آدم سبط الشعر

          3441- وبه قال: (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ) بن الوليد (المَكِّيُّ) الأزرقيُّ (قَالَ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ سَعْدٍ) بسكون العين، ابن إبراهيم بن عبد الرَّحمن بن عوفٍ (قَالَ: حَدَّثَنِي) بالإفراد (الزُّهْرِيُّ) محمَّد بن مسلم ابن شهابٍ (عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ) عبد الله بن عمر بن / الخطَّاب (قَالَ: لَا وَاللهِ مَا قَالَ النَّبِيُّ صلعم لِعِيسَى) أي: عن عيسى: (أَحْمَرُ) أقسم على غلبة(1)ظنِّه أنَّ الوصف اشتبه على الرَّاوي، وأنَّ الموصوف بكونه أحمر إنَّما هو الدَّجَّال لا عيسى، وكأنَّه سمع ذلك سماعًا جزمًا في وصف عيسى بأنَّه آدم، كما في الحديث السَّابق [خ¦3440] فساغ له الحلف على ذلك لمَّا غلب على ظنِّه أنَّ من وصفه بأنَّه أحمر فقد وهم. وقد وافق أبو هريرة على أنَّ عيسى أحمر، فظهر أنَّ ابن عمر أنكر ما حفظه غيره. والأحمر عند العرب: الشَّديد البياض مع الحمرة. والآدم: الأسمر(2). وجُمِع بين الوصفين، بأنَّه احمرَّ لونه بسببٍ كالتَّعب، وهو في الأصل أسمر (وَلَكِنْ قَالَ: بَيْنَمَا) بالميم (أَنَا نَائِمٌ) رأيت أنِّي (أَطُوفُ بِالكَعْبَةِ فَإِذَا رَجُلٌ‼ آدَمُ) أسمر (سَبْطُ الشَّعَرِ) أي: مسترسل الشَّعر غير جعدٍ. وفي الحديث السَّابق في «باب قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى}[طه:9]» من حديث ابن عبَّاسٍ [خ¦3396]: «جعدٌ» وهو ضدُّ السَّبط. وجُمِع بينهما: بأنَّه سبط الشَّعر، جعد الجسم لا الشَّعر؛ والمراد: اجتماعه واكتنازه، قال الجوهريُّ: رجلٌ سبط الشَّعر وسبط الجسم، أي: حسن القدِّ والاستواء، قال الشَّاعر:
فجاءتْ به سَبْطَ العظامِ كأنَّما                     عمامتُه بين الرِّجالِ لواءُ
          (يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ) بضمِّ الياء وفتح الدَّال؛ أي: يمشي متمايلًا بينهما (يَنْطُفُ) بضمِّ الطَّاء المهملة. ولأبي ذرٍّ: ”ينطِف“ بكسرها؛ أي: يقطر (رَأْسُهُ مَاءً) نُصِبَ على التَّمييز (أَوْ يُهْـَرَاقُ رَأْسُهُ مَاءً) بضمِّ الياء وفتح الهاء وتُسكَّن(3). والشَّكّ من الرَّاوي (فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: ابْنُ مَرْيَمَ. فَذَهَبْتُ أَلْتَفِتُ، فَإِذَا رَجُلٌ أَحْمَرُ) اللَّون (جَسِيمٌ جَعْدُ) شعر (الرَّأْسِ، أَعْوَرُ عَيْنِهِ اليُمْنَى) بالإضافة، و«عينه» بالجرِّ، و«اليمنى» صفته. وفي ذلك أمران؛ أحدهما: أنَّ قوله: «أعور عينه» من باب الصِّفة المجرَّدة عن اللَّام المضافة إلى معمولها المضاف إلى ضمير الموصوف، نحو: حسن وجهِه. وسيبويه وجميع البصريِّين يجوِّزونها على قبحٍ في ضرورةٍ فقط. وأنشد سيبويه _للاستدلال على مجيئها في الشِّعر_ قول الشَّمَّاخ:
أَقَامَتْ على رَبْعَيْهِمَا جَارَتَا صَفا                     كُمَيْتا الأَعالي جَوْنَتَا مُصْطَلاهما
          فـ «جونتا مصطلاهما» نظير «حسن وجهِه». وأجازه الكوفيُّون في السَّعة بلا قبحٍ. وهو الصَّحيح(4)، لوروده في هذا الحديث، وفي حديثٍ «صفته صلعم »: «شثن الكَّفين طويل أصابعه»، قال أبو عليٍّ _وهو ثقةٌ_: كذا رويته بالخفض. وذكر الهرويُّ وغيره في حديث أمِّ زرعٍ: «صفر وشاحِها»، ومع جوازه ففيه ضعفٌ، لأنَّه يشبه إضافة الشَّيء إلى نفسه.
          ثانيهما: أنَّ الزَّجَّاج ومتأخِّري المغاربة ذهبوا إلى أنَّه لا يُتبَع معمول الصِّفة المشبَّهة بصفةٍ؛ مستندين فيه إلى عدم السَّماع من العرب، فلا يُقال: زيدٌ حسن الوجه المشرقِ، بجرِّ «المشرق» على أنَّه صفةٌ لـ «الوجه». وعلَّل بعضهم المنع بأنَّ معمول الصِّفة لمَّا كان سببًا غير أجنبيٍّ؛ أشبه الضَّمير؛ لكونه أبدًا محالًا على الأوَّل وراجعًا إليه، والضَّمير لا يُنعَت، فكذا ما أشبهه. قال ابن هشامٍ في «المغني»: ويُشْكِل عليهم الحديث في صفة الدَّجَّال: «أعورُ عينِه اليمنى» [خ¦3441] قال في «المصابيح»: خرَّجه بعضهم على أنَّ «اليمنى» خبر مبتدأ محذوفٍ، لا صفةٌ لـ «عينه»، وكأنَّه لمَّا قيل: «أعور عينه» قيل: أيُّ عينيه؟ فقيل: اليمنى، أي: هي اليمنى. وللأصيليِّ ممَّا(5) في «الفتح»: ”عينُه“ بالرَّفع، بقطع إضافة «أعور عينه»(6)، ويكون بدلًا من قوله: «أعور»، أو مبتدأٌ حُذِف خبره، تقديره: عينه اليمنى عوراء، وتكون هذه الجملة صفةً كاشفةً لقوله: «أعور»، قاله في «العمدة» (كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ) بغير همزٍ‼، بارزةٌ خرجت عن نظائرها، وضُبِّب في الفرع على قوله: «عينه» الَّذي بالتَّحتيَّة والنُّون. ولأبي ذرٍّ والحَمُّويي والمُستملي: ”كأنَّ عنبةً طافيةً“ بإسقاط «عينه» واحدة العيون، وإثبات «عنبة» بالموحَّدة ونصبها كتاليها اسم «كأنَّ» والخبر محذوفٌ، أي: كأنَّ في وجهه عنبةً طافيةً، كقوله:
إنَّ مَحِلًّا وإنَّ مُرْتَحلًا                     . . . . . . . . . . . . . . . .
          أي: إنَّ لنا محلًّا وإنَّ لنا مرتحلًا. وأعربه الدَّمامينيُّ بأن قوله: «اليمنى» مبتدأٌ، وقوله: «كأنَّ عنبةً طافيةً» خبره، والعائد محذوفٌ تقديره: كأنَّ فيها. قال: ويكون هذا وجهًا آخر في دفع ما قاله ابن هشامٍ، يعني: من الاستشكال(7) في صفة الدَّجَّال السَّابق قريبًا. ولأبي ذرٍّ / عن الكُشْميهَنيِّ: ”كأنَّ عينه طافيةٌ“ بإسقاط «عنبة» بالموحَّدة، ورفع «طافية» خبر «كأنَّ»، وهو ممَّا أُقيم فيه الظَّاهر مقام المضمر، فيحصل الرَّبط، وقد أجازه الأخفش، والتَّقدير: اليمنى كأنَّها طافيةٌ، قاله في «المصابيح» (قُلْتُ) كذا في «اليونينيَّة»، وفي فرعها: ”فقلت“ بالفاء (مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا الدَّجَّالُ) استُشكِل: بأنَّ الدَّجَّال لا يدخل مكَّة ولا المدينة. وأُجيب بأنَّ المراد: لا يدخلهما زمن خروجه، ولم يُرِدْ بذلك نفي دخوله في الزَّمن الماضي (وَأَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا ابْنُ قَطَنٍ) عبد العزَّى (قَالَ الزُّهْرِيُّ) محمَّد بن مسلم ابن شهابٍ بالسَّند السَّابق: (رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ، هَلَكَ فِي الجَاهِلِيَّةِ) قبل الإسلام.
          وهذا الحديث من أفراده.


[1] «غلبة»: ليس في (ص) و(م).
[2] في (د): «أسمر».
[3] «بضمِّ الياء وفتح الهاء وتُسكَّن»: مثبتٌ من (ب) و(س).
[4] في (ب): «الصَّواب».
[5] في (ب) و(س): «كما».
[6] زيد في غير (ب) و(س): «قيل: أيُّ عينيه»، وهو تكرارٌ.
[7] في (د): «الإشكال».