إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة

          3436- وبه قال: (حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) الفراهيديُّ قال: (حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ) بالحاء المهملة والزَّاي ابن زيدٍ الأزديُّ (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ) الأنصاريِّ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) ☺ (1) (عَنِ النَّبِيِّ صلعم ) أنَّه (قَالَ: لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي المَهْدِ) وهو ما يُهيَّأ للصَّبيِّ أن يُربَّى فيه (إِلَّا ثَلَاثَةٌ) واستُشكِل الحصر بما رُوِي من كلام غير الثَّلاثة. وأُجيب باحتمال أن يكون المعنى: لم يتكلَّم في بني إسرائيل، أو قاله قبل أن يعلم الزِّيادة، أو الثَّلاثة بقيد المهد.
          فالأوَّل: (عِيسَى) ابن مريم ♂ .
          (وَ) الثَّاني (كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: جُرَيْجٌ) وفي حديث أبي سلمة: أنَّه كان تاجرًا، وكان يَنقُص مرَّةً ويزيد أخرى، فقال: ما في هذه التِّجارة خيرٌ، لألتمسنَّ تجارةً هي خيرٌ من هذه، فبنى صومعةً وترهَّب فيها، وعند أحمد: «وكانت أمُّه تأتيه فتناديه فيشرف عليها فتكلِّمه» و(كَانَ يُصَلِّي) يومًا (جَاءَتْهُ) ولأبي ذرٍّ عن الكُشْميهَنيِّ: ”فجاءته“ (أُمُّهُ فَدَعَتْهُ) فقالت: يا جريج (فَقَالَ) في نفسه: (أُجِيبُهَا) وأقطع صلاتي (أَو أُصَلِّي؟) فآثر الصَّلاة على إجابتها بعد أن دعته ثلاثًا، كما في الرِّواية الأخرى: «أنَّها دعته ثلاثًا» (فَقَالَتِ: اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ وُجُوهَ المُومِسَاتِ) بضمِّ الميم الأولى وكسر / الثَّانية بينهما واوٌ ساكنةٌ، الزَّانيات، ولم تدعُ عليه بوقوع الفاحشة مثلًا رفقًا منها (وَكَانَ جُرَيْجٌ فِي صَوْمَعَتِهِ، فَتَعَرَّضَتْ لَهُ امْرَأَةٌ) راعيةٌ ترعى الغنم، أو كانت بنت ملك القرية(2) (فَكَلَّمَتْهُ) أن يواقعها بالفاء في الفرع، وفي «اليونينيَّة»: ”وكلَّمته“ بالواو بدل الفاء (فَأَبَى) أن يفعل ذلك (فَأَتَتْ رَاعِيًا، فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا) فواقعها فحملت منه (فَوَلَدَتْ‼ غُلَامًا) فقيل لها: ممَّن هذا الغلام؟ (فَقَالَتْ: مِنْ جُرَيْجٍ) زاد أحمد: «فأُخِذت وكان من زنى منهم قُتِل» وزاد أبو سلمة في روايته: «فذهبوا إلى الملك فأخبروه فقال: أدركوه فأتوني به» (فَأَتَوْهُ فَكَسَرُوا) بالفاء، ولأبي ذرٍّ: ”وكسروا“ (صَوْمَعَتَهُ) بالفؤوس والمساحي (وَأَنْزَلُوهُ) منها (وَسَبُّوهُ) زاد أحمد عن وهبٍ بن(3) جريرٍ: «وضربوه، فقال ما شأنكم؟ قالوا: إنَّك زنيت بهذه» وعند أحمد أيضًا من طريق أبي رافعٍ: «أنَّهم جعلوا في عنقه وعنقها حبلًا وجعلوا يطوفون بهما على(4) النَّاس» وفي رواية أبي سلمة: «أنَّ الملك أمر بصلبه» (فَتَوَضَّأَ) بالفاء، ولأبي ذرٍّ: ”وتوضَّأ“ فيه أنَّ الوضوء لا يختصُّ بهذه الأمَّة خلافًا لمن زعم ذلك. نعم الَّذي يختصُّ بها الغرَّة والتَّحجيل في الآخرة (وَصَلَّى) في حديث عمران: «فصلَّى ركعتين»، وزاد وهب بن جريرٍ: «ودعا» (ثُمَّ أَتَى الغُلَامَ، فَقَالَ: مَنْ أَبُوكَ يَا غُلَامُ؟) زاد في رواية وهب بن جريرٍ: «فطعنه بإصبعه» وفي رواية أبي سلمة: «فأُتِي بالمرأة والصَّبيِّ وفمه في ثديها، فقال له جريجٌ: يا غلام، من أبوك؟ فنزع الغلام فمه(5) من الثَّدي» (فَقَالَ) ولغير أبي(6) ذرٍّ: ”قال“: (الرَّاعِي) لم يُسَمَّ، وزاد في رواية وهب بن جريرٍ: «فوثبوا إلى جريجٍ فجعلوا يقبِّلونه» وفي هذا إثبات كرامات الأولياء، ووقوع ذلك لهم(7) باختيارهم وطلبهم (قَالُوا: نَبْنِي) لك(8) (صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ؟ قَالَ) جريج: (لَا، إِلَّا مِنْ طِينٍ) كما كانت، ففعلوا.
          (وَ) الثَّالث (كَانَتِ امْرَأَةٌ) لم تُسَمَّ (تُرْضِعُ ابْنًا لَهَا) لم يُسَمَّ أيضًا (مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ رَاكِبٌ) لم يُسَمَّ (ذُو شَارَةٍ) بالشِّين المعجمة والرَّاء المخفَّفة، صاحب حسنٍ أو هيئةٍ أو ملبسٍ(9) حسنٍ يُتعجَّب منه ويُشار إليه (فَقَالَتِ) المرأة المرضعة: (اللَّهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهُ) في الهيئة الجميلة (فَتَرَكَ) المُرضَع (ثَدْيَهَا، وَأَقْبَلَ) بالواو، ولأبي ذرٍّ: ”فأقبل“ (عَلَى) الرَّجل (الرَّاكِبِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ثَدْيِهَا يَمَصُّهُ) بفتح الميم.
          (قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ) بالسَّند السَّابق: (كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صلعم يَمَصُّ إِصْبَعَهُ) فيه: المبالغة في إيضاح الخبر بتمثيله بالفعل (ثُمَّ مُرَّ) بضمِّ الميم وتشديد الرَّاء مبنيًّا للمفعول (بِأَمَةٍ) زاد وهب بن جريرٍ عند أحمد: «تُضْرَب» (فَقَالَتِ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هَذِهِ) المرأة (فَتَرَكَ ثَدْيَهَا، فَقَالَ) ولأبي ذرٍّ: ”وقال“: (اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا. فَقَالَتْ) أي: الأمُّ لابنها: و(لِمَ) قلت (ذَاكَ؟) ولأبي ذرٍّ: ”فقالت له ذلك“ أي: عن سبب ذلك (فَقَالَ) الابن: أمَّا (الرَّاكِبُ) فهو (جَبَّارٌ مِنَ الجَبابرَةِ) وفي رواية الأعرج: «فإنَّه كافرٌ» [خ¦3466] (وَ) أمَّا (هَذِهِ الأَمَةُ) فهم (يَقُولُونَ: سَرَقْتِ، زَنَيْتِ) بكسر التَّاء فيهما على المخاطبة للمؤنَّث، ولأبي ذرٍّ: ”سرقتْ زنتْ“ بسكونها على‼ الخبر (وَ) الحال أنَّها (لَمْ تَفْعَلْ) شيئًا من السَّرقة والزِّنا. وفي رواية الأعرج [خ¦3466] «يقولون لها: تزني. وتقول: حسبي الله، ويقولون لها: تسرقي. وتقول: حسبي الله».
          والرَّابع: شاهد يوسف، قال تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا}[يوسف:26] وفُسِّر بأنَّه كان ابن خال زليخا صبيًّا تكلَّم في المهد، وهو منقولٌ عن ابن عبَّاسٍ وسعيد بن جبيرٍ والضَّحَّاك.
          والخامس: الصَّبيُّ(10) الرَّضيعُ(11) الَّذي قال لأمِّه _وهي ماشطة بنت فرعون_ لمَّا أراد فرعون إلقاء أمِّه في النَّار: «اصبري يا أمَّاه(12)، فإنَّا على الحقِّ» رواهما أحمد والبزَّار وابن حبَّان والحاكم من حديث ابن عبَّاسٍ بلفظ: «لم يتكلَّم في المهد إلَّا أربعةٌ» فذكرها، ولم يذكر الثَّالث الَّذي هنا، لكنَّه اختُلِف في شاهد يوسف، فروى ابن أبي حاتمٍ عن ابن عبَّاسٍ ومجاهدٍ: أنَّه كان ذا لحيةٍ. وعن قتادة والحسن أيضًا: أنَّه كان حكيمًا من أهلها، ورُجِّح بأنَّه لوكان طفلًا لكان مجرَّد قوله: إنَّها كاذبةٌ كافيًا وبرهانًا قاطعًا، لأنَّه من المعجزات، ولَمَا احتيج أن يقول: {مِّنْ أَهْلِهَا}[يوسف:26] فرجح كونه رجلًا لا طفلًا، وشهادة القريب على قريبه أَولى بالقبول من شهادته له.
          السَّادس: ما في قصَّة الأخدود، لمَّا أُتِي بالمرأة ليُلقَى بها في النَّار لتكفر ومعها صبيٌّ مُرضَعٌ، فتقاعست فقال لها / : «يا أمَّاه اصبري، فإنَّك على الحقِّ» رواه مسلمٌ من حديث صُهيبٍ.
          السَّابع: زعم الضَّحَّاك في «تفسيره»: أنَّ يحيى بن زكريَّا ♂ تكلَّم في المهد، أخرجه الثَّعلبيُّ، وفي «سيرة الواقديِّ»: أنَّ نبيَّنا صلعم تكلَّم في أوائل ما وُلِد. وعن ابن عبَّاسٍ ☻ : قال: كانت حليمة تحدِّث أنَّها أوَّل ما فطمت رسول الله صلعم تكلَّم فقال: «الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرةً وأصيلًا...» الحديث، رواه البيهقيُّ. وعن ابن(13) معيقيب اليماميِّ(14) قال: «حججت حجَّة الوداع، فدخلت دارًا فيها رسول الله صلعم ورأيت منه عجبًا، جاءه رجلٌ من أهل اليمامة بغلامٍ يوم وُلِد، فقال له رسول الله صلعم : يا غلام من أنا؟ قال: أنت رسول الله. قال: صدقت، بارك الله فيك ثمَّ إنَّ الغلام لم يتكلَّم بعد حتَّى شبَّ، فكنَّا(15) نسميه مبارك اليمامة»(16) رواه البيهقيُّ من حديث معرِّضٍ _بالضَّاد المعجمة_ .


[1] «عن أبي هريرة ☺»: سقط من (ص).
[2] في غير (د): «القرنية» ولعلَّه تحريفٌ.
[3] في غير (د) و(س): «عن» وهو تحريفٌ.
[4] في (د): «في».
[5] في (ص) و(م): «فاه».
[6] في (د): «ولأبي»، وليس بصحيحٍ.
[7] في (د): «منهم».
[8] «لك»: ليس في (د).
[9] في غير (ب) و(س): «وملبسٍ».
[10] «الصَّبيُّ»: ليس في (ص).
[11] في (ب): «المُرضَع».
[12] في (د): «أمَّه».
[13] «ابن»: سقط من جميع النُّسخ.
[14] في جميع النُّسخ: «اليمانيُّ»، وهو تحريفٌ.
[15] في (ص) و(م): «وكنَّا».
[16] نبَّه الشيخ قطة ☼ بهامش الطبعة البولاقية إلى أنَّه قد جمع بعضهم من تكلم في المهد بقوله:
تكلَّم في المهْد النبيِّ (محمد)                      (وموسى وعيسى والخليل ومريم)
ومُبْري (جُريج) ثم (شاهد يوسف)                      (وطفل لدى أخدود) يرويه مسلم
[وطفل عليه مُرَّ بالأَمَةِ التي                      يُقال لها تزني ولا تتكلّم]
وماشطة في عهد فرعون (طفلها)                      وفي زمن الهادي (المبارك) يُختم
انتهى كلام الشيخ قطة ☼ . والنظم للإمام السيوطي ☼ في «قلائد الفوائد»، وما بين معقوفين مستدرك منه.