مجمع البحرين وجواهر الحبرين

باب: إذا قال عند قوم شيئًا ثم خرج فقال بخلافه

          ░21▒ باب إذا قال عند قوم شيئاً ثم خرج فقال بخلافه
          فيه أحاديث:
          1- حديث نافع: لما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية.. إلى آخره.
          2- حديث أبي المنهال قال فيه: ثنا أحمد بن يونس، ثنا أبو شهاب وهو عبد ربه بن نافع الحناط المدائني صاحب الطعام، اتفقا عليه وعلى عبد ربه بن سعيد بن قيس، وانفرد (م) بأبي نعامة عبد ربه السعدي، وبعبد ربه أبي سعيد الشامي، عن وراد.
          قال: لما كان ابن زياد ومروان بالشام، ووثب ابن الزبير بمكة، ووثب القراء بالبصرة، فانطلقت مع أبي إلى أبي برزة الأسلمي واسمه: نضلة بن عبيد حتى دخلنا عليه في داره في ظل عُليّة من قصب فجلسنا إليه، فأنشأ أبي يستطعمه الحديث فقال: يا أبا برزة، ألا ترى ما وقع فيه الناس؟ فأول شيء سمعته تكلم به: إني أحتسب على الله أني أصبحت ساخطاً على أحياء قريش، إنكم يا معشر العرب كنتم على الحالتين التي قد علمتم من القلة والذلة والضلالة، وإن الله أنقذكم بالإسلام الحديث.
          3- حديث أبي وائل، عن حذيفة بن النعمان قال: إن المنافقين اليوم شر منهم.. الحديث.
          وعن أبي الشعثاء، عن حذيفة.. إلى آخره.
          معنى الترجمة: إنما هو في خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية ورجوعهم عن بيعته، وما قالوا له، وقالوا بغير حضرته خلاف ما قالوا بحضرته، وذلك أن ابن عمر بايعه فقال عنده بالطاعة لخلافته، ثم خشي على بنيه وحشمه النكث مع أهل المدينة حين نكثوا بيعة يزيد، فجمعهم ووعظهم، وأخبرهم أن النكث أعظم الغدر.
          وأما قول أبي برزة: إني أحتسب عند الله أني أصبحت ساخطاً على أحياء قريش، فوجه معاقبته الترجمة: أن هذا قول لم يقله عند مروان بن الحكم حين بايعه، بل بايع واتبع ثم سخط ذلك لما بعد عنه، وكأنه أراد منه أن يترك ما نوزع فيه للآخرة؛ ولا يقاتل عليه، كما فعل عثمان، فلم يقاتل من نازعه، بل ترك ذلك لمن قاتله عليه، وكما فعل الحسين بن علي حين ترك القتال لمعاوية حين نازعه أمر الخلافة، فسخط أبو برزة من مروان؛ تمسكه بالخلافة والقتال عليها، فقد تبين أن قوله لأبي المنهال وابنه بخلاف ما قال لمروان حين بايع معه.
          وأما يمينه أن الذي بالشام إن يقاتل إلا على الدنيا وهو عبد الملك فوجهه أنه كان يريد أن يأخذ بسيرة عثمان والحسن، وإنما يمينه على الذي بمكة يعني ابن الزبير، فإنه لما وثب بمكة من بعد أن دخل فيها دخل فيه المسلمون جعله نكثاً منه وحرصاً على الدنيا، وهو في هذه أقوى رأياً منه في الأولى، وكذا القراء بالبصرة؛ لأنه كان لا يرى الفتنة في الإسلام أصلاً فكان يرى أن يترك صاحب الأمر حقه لمن ينازعه فيه؛ لأنه مأجور في ذلك، وممدوح بالإيثار على نفسه، وكان يريد من المقاتل له أن لا يقتحم النار في قيامه، وتفريقه الجماعة وتشتيت الكلمة، ولا يكون سبباً لسفك الدماء واستباحة الحرم أخذاً بقوله ◙: ((إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار)). فلم ير القتال البتة وخشي أن يقول في ابن الزبير شيئاً؛ لأنه كان من العبادة بمكان، وما غير عليه في خلافته أنه استأثر بشيء من مال الله.
          وأما حديث حذيفة، وقوله: إن المنافقين اليوم شر منهم على عهد رسول الله؛ لأنهم كانوا يسرون قولهم فلا يتعدى شرهم إلى غيرهم، وأما اليوم فإنهم يجهرون بالنفاق ويعلنون بالخروج على الجماعة ويورثون بينهم ويحزبوهم أحزاباً، فهم اليوم شر منهم حتى لا يضرون بما يسرونه، غير أنهم لم يصرحوا بالكفر إنما هو النفث يلقونه من أفواههم، فكانوا يعرفون به، / قال الحسن: لولا المنافقين ما توحشنا في الطرق ولولاهم ما انتصفنا من عدونا.
          ووجه موافقته للترجمة أن المنافقين بالجهر وإشهار السلاح على الناس هو القول بخلاف ما قالوه حين دخلوا في بيعة من بايعوه من الأئمة؛ لأنه لا يجوز أن يتخلف عن بيعة من بايعه الجماعة ساعة من الدهر؛ لأنها ساعة جاهلية، ولا جاهلية، في الإسلام، وقد قال تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} [آل عمران:103] والتفرق [محرم] في الإسلام وهو الخروج عن طاعة الأئمة.
          وأما قول أبي برزة واحتسابه وسخطه على أحياء قريش عند الله تعالى فكأنه قال: اللهم إني لا أرضى ما تصنع قريش من التقاتل على الخلافة، واعلم ذلك من نيتي، وإني ساخط ذلك عليهم وأفعالهم واستباحتهم الدماء والأموال، فأراد أن يحتسب ما يعتقده من إنكار القتال في الإسلام عند الله أجراً وذخراً، فإنه لم يقدر من التغيير عليهم إلا بالقول والنية التي بها أجزى الله عباده.
          والحشم: الخدم ومن يغضب له، وهم الجماعة اللائذون بخدمته؛ سموا بذلك لأنهم يغضبون له، والحشمة الغضب، وحشمة: بفتح الحاء والشين المعجمة.
          والفيصل: المقاطعة التامة والياء زائدة فعيل من فصل الشيء أي: قطعه.
          وقوله: (على بيع الله ورسوله) أي: على شرط ما أمر الله ورسوله من البيعة، والبيعة: الصفقة من البيع، وذلك أن من بايع سلطانه فقد أعطاه الطاعة وأخذ منه العطية فأشبهت البيعة الذي فيه المعاوضة من أخذ وعطاء، وقيل: أصله أن العرب كانت إذا بايعت تصافقت بالأكف عند العقد، وكذلك كانوا يفعلون إذا تحالفوا فشبهوا معاوضة الولاة المتماسكة بالأيدي وسموها بيعة.
          قوله: (في ظل علية) أي: غرفة، وجمعها: علالي وهي فعيلة، وأصله عليوة، فأبدلت الواو ياء، وأدغمت؛ لأن هذه الواو إذا سكن ما قبلها فتحت، كما ينسب إلى الدلو دلويّ وهي من علوت، وقال بعضهم: هي علية بالكسر على فعيلة، يجعلها من المضاعف قال: وليس في الكلام فعيلة.
          قوله: (يستطعمه الحديث) أي: يستطيبه ويرغب في أن يسمعه منه.
          قوله: (إنما كان النفاق على عهد رسول الله) أي: إنما دخلوا في الإسلام خوفاً، آمنوا بألسنتهم دون قلوبهم.
          قوله: (فأما اليوم فإنما هو الكفر بعد الإيمان) يعني: هؤلاء ولدوا في الإسلام وعلى فطرته، فمن أظهر منهم كفراً فهو مرتد، ولذلك اختلف أحكام المنافقين والزنادقة والمرتدين؛ لأن المنافقين لم يكونوا مسلمين قط إلا بالإسلام، وهؤلاء ولدوا على فطرة الإسلام وفي الإسلام، فكانوا عليها حتى أحدثوا ما أحدثوا، وكان السلف يخشون على أنفسهم النفاق لما لا يكادون ينجون مما لا ينجى منه اليسر والمؤمن خاش راج.