مجمع البحرين وجواهر الحبرين

باب ظهور الفتن

          ░5▒ باب ظهور الفتن
          فيه حديث الزهري، عن شعبة، عن أبي هريرة، عن النبي صلعم قال: ((يتقارب الزمان..)) الحديث.
          وحديث عبيد الله بن موسى، عن الأعمش، عن شقيق قال: كنت مع عبد الله وأبي موسى قالا: قال النبي صلعم ((إن بين يدي الساعة لأياماً...)) الحديث.
          قد عرفت أن تفسير الهرج ذكره مرة ما ظاهره الرفع، ومرة من كلام أبي موسى وأنه بلغة الحبش، وكذا ساقه الحربي في ((غريبه)) من كلام أبي موسى؛ قال: الحبش يدعون القتل: الهرج، وهو بتسكين الراء، وأصله الفتنة والاختلاط.
          وعن صاحب ((العين)): الهرج مثال لعب القتال والاختلاط، وعن ابن دريد: الهرج الفتنة في آخر الزمان، وفي ((المحكم)): الهرج: شدة القتل وكثرته، والهرج كثرة النكاح، والهرج كثرة النوم وكثرة الكذب وفي ((المنتهى)) لأبي المعالي: والهرج كثرة الاحتلام. وفي ((الصحاح)): أصل الهرج الكثرة في الشيء، ومنهم قولهم في الجماع: بات يهرجها الليلة جميعاً.
          قوله: (والهرج بلسان الحبشة القتل) هذا ليس من لفظ الحبش ولا من كلام رسول الله صلعم.
          روى (ق) من حديث الحسن عن أسيد بن المتشمس، عن أبي موسى بعد قوله ◙: ((الهرج القتل)). قال رجل من المسلمين: يا رسول الله إنا نقتل الآن في العام الواحد من المشركين كذا وكذا. فقال ◙: ((ليس بقتل المشركين، ولكن يقتل بعضكم بعضاً؛ حتى يقتل الرجل جاره وابن عمه وذا قرابته)) فقال بعض القوم: يا رسول الله، ومعنا عقولنا ذلك اليوم فقال: ((لا تنزع عقول أكثر من في ذلك الزمان، ويخلف له هنا من الناس لا عقول لهم)) ثم قال الأشعري: والله إني لأظنها تدركني وإياكم، وايم الله لي ولكم منها مخرج إن أدركتنا مما عهد إلينا نبينا ألا نخرج منها كما دخلنا فيها.
          وسلف في تقارب الزمان هل هو اعتدال الليل والنهار، أو إذا دنا قيام الساعة أو أن الساعات والأيام والليالي تقصر. وقال الطحاوي: قد يكون معناه تقارب أحوال أهله في ترك طلب العلم خاصة والرضا بالجهل وذلك؛ لأن الناس لا يتساوون في العلم؛ لتفاوت درجه قال تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76] وإنما يتساوون إذا كانوا جهالاً.
          وقال ابن بطال: معناه والله أعلم تفاوت أحواله في أهله في قلة الدين؛ حتى لا يكون فيهم من يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر؛ لغلبة الفسق وظهور أهله / ، وقد جاء في الحديث: ((لا يزال الناس بخير ما تفاضلوا فإذا تساووا هلكوا))، يعني: لا يزالون بخير ما كان فيهم أهل فضل وصلاح وخوف لله؛ يلجأ إليهم عند الشدائد ويستشفى بآرائهم، ويتبرك بدعائهم، ويؤخذ بقولهم وآثارهم.
          وذكر الخطابي أن حديثه الآخر أنه: ((يتقارب الزمان حتى تكون السنة كالشهر، والشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم، واليوم كالساعة)) فإن حماد بن سلمة قال: سألت عنه أبا سليمان فقال: ذلك من استلذاذ العيش، يريد والله أعلم خروج المهدي ووقوع الأمنة في الأرض ببسطه العدل فيها، فيستلذ العيش عند ذلك وتستقصر مدته، ولا يزال الناس يستقصرون أيام الرخاء وإن طالت، ويستطيلون أيام المكروه وإن قصرت، وللعرب في مثل هذا كقولهم: مر بنا يوم كعرقوب القطا قصراً(1).
          والزمن بفتح الميم جمعه: أزمن وهو شاذ؛ لأن فعلاً بالفتح لا يجمع على أفعال إلا حروفاً يسيرة زمن وأزمن، وحبل وأحبل، وعصب وأعصب.
          وقولهم: (من شرار الناس..) إلى آخره. هو إخبار عن أن الكفار والمنافقين شرار الخلق، وهم حينئذ أحياء إذ ذاك؛ قاله ابن التين.
          قال ابن بطال: وهو وإن كان لفظه العموم فالمراد به الخصوص، ومعناه أن الساعة تقوم في الأغلب والأكثر على شرار الناس؛ بدليل قوله ◙: ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرها من ناوأها حتى تقوم الساعة))، فدل هذا الحين أن الساعة أيضاً تقوم على قوم فضلاء، وأنهم في صبرهم على دينهم كالقابض على الجمر، وقد ذكر ◙ فضلهم في أحاديث جمة.


[1] في هامش المخطوط: ((أقول: قال شاعر: ~وأيام الهموم مقصصات                     وأيام الوصال تطير طيرا)).