مجمع البحرين وجواهر الحبرين

بابُ التعوذ من الفتن

          ░15▒ باب التعوذ من(1) الفتن
          فيه حديث هشام، عن قتادة، عن أنس قال: سألوا النبي صلعم حتى أحفوه بالمسألة، الحديث.
          وسلف مختصراً في تفسير: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء} [المائدة:101] من حديث شعبة عن موسى بن أنس عن أنس.
          قال (خ): وقال لي عباس النرسي: ثنا يزيد بن زريع، ثنا سعيد، ثنا قتادة، أن أنساً حدثهم أن النبي صلعم بهذا قال، وكل رجل لافا رأسه إلى آخره.
          أراد بهذا تصريح سماع قتادة من أنس، وهذا مما أخذه عنه النرسي مذاكرة، ثم قال: وقال لي خليفة: ثنا يزيد إلى آخره والقول في هذا كالقول / في الذي قبله وروى الإسماعيلي حديث شعبة ومعتمر هذا في ((صحيحه)) عن موسى، ثنا أبو بكر الصنعاني، بسنده ثنا المعتمر عن أبيه، قالا: ثنا قتادة، فذكره، وفيه: واسم الرجل خارجة. قلت: غريب، فإنما هو عبد الله كما أسلفناه هناك، وقيل: قيس أخوه.
          وأسلفنا أن (خ) صرح في روايته بأنه عبد الله في الاعتصام، في باب: ما يكره من كثرة السؤال، كما ستعلمه، وروى أن أمه قالت له: يا بني، والله ما رأيت ابنا أعق منك، أن تكون أمك قارفت بعض ما تقارف نساء الجاهلية فتفضحها على أعين الناس. فقال: والله لو ألحقني بعبد أسود للحقت به.
          قوله: (أحفوه) هو بهمزة مفتوحة ثم حاء مهملة ساكنة ثم فاء، أي: ألحفوا وألحوا، قال صاحب ((الأفعال)): أحفى الرجل في السؤال: ألح وفي التنزيل: {فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا} [محمد:37] أي: يلح عليكم فيما يوجبه في أموالكم، ولما ألحوا عليه في المسألة كره مسائلهم، وعز على المسلمين ما رأوا من الإلحاح عليه والتعنت له وتوقعوا عقوبة الله أن تحل بهم، ولذلك بكوا، فمثل الله له الجنة والنار، وأراه كل ما يسأل عنه في ذلك الوقت، فقال: ((لا تسألوني عن شيء إلا بينته لكم)) وقال للرجل: ((أبوك حذافة)).
          وفي هذا الحديث فضل عمر ومكانه من الحماية عن الدين والذب عن رسول الله؛ إذ قال: ((رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا)) ومنع من تعنته والإلحاح عليه؛ لأن الله تعالى قد أمر بتعزيره وتوقيره، وأن لا يرفع الصوت فوق صوته واستعاذ بالله من شر الفتن، وكذلك استعاذ رسوله من شر الفتن، واستعاذ من فتنة المحيا والممات وإن كان قد أعاذه الله من كل فتنة وعصمه من شرها؛ ليسن ذلك لأمته فتستعيذ بما استعاذ منه نبينا ◙، وهذا خلاف ما يروى عن بعض من قصر علمه أنه قال: اسألوا الله الفتنة فإنها حصاد المنافقين، وزعم أن ذلك مروي عن رسول الله، وهو حديث لا يثبت، والصحيح خلافه من رواية أنس وغيره عن رسول الله، كما نبه عليه ابن بطال.
          قوله: (كان إذا لاحى) أي: نازع. وتعوذه من الفتن ولم يتعوذ من جميعها؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15]، وهو يشتمل على شر الدنيا والآخرة، نبه عليه الداودي، وقال في الموضع الآخر: (من شر الفتن) كذا روينا بالراء والتشديد، ذكره ابن التين.
          قوله: {لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء} [المائدة:101] هو عن السؤال عن المسائل التي لم تنزل، وكان ◙ يخاف أن يسأل عن المسائل التي لم تنزل؛ خوفاً أن ينزل ما فيه تضييع أمته، ويؤيده أن رجلاً قال: يا رسول الله، أفرض الحج في كل عام؟ فقال: ((لو قلتها لوجبت، ولو وجبت وتركتموها لكفرتم)).
          والذي قال قتادة: أن الآية نزلت عند هذا الحديث ظاهر، وقيل: إنما نهى عن ذلك؛ لأن الله سبحانه أحب الستر على عباده وأحب أن لا يقترحوا المسائل، وقال سعيد بن جبير: نزلت فيمن سأل عن البحيرة الآية، ألا ترى أن بعده: {مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ} [المائدة:103].
          قال والدي ⌂:
          (باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة).
          قوله: (محمد بن المثنى) ضد المفرد، و(الوليد) بفتح الواو ابن مسلم، و(عبد الرحمن بن يزيد) من الزيادة ابن جابر، و(بسر) بضم الموحدة (ابن عبيد الله الحضرمي) بفتح المهملة وسكون المعجمة، و(أبو إدريس) عائذ الله من العوذ بإعجام الذال الخولاني بفتح المعجمة.
          قوله: (دخن) بالمهملة والمعجمة المفتوحتين دخان أي: ليس خيراً خالصاً بل فيه كدورة بمنزلة الدخان من النار، و(الهدي) بفتح الهاء هو السيرة والطريقة، و(من جلدتنا) أي: من العرب.
          النووي: المراد من الدخن أن لا تصفوا القلوب بعضها لبعض كما كانت عليه من الصفاء، وقال القاضي الخير بعد الشر أيام عمر بن عبد العزيز.
          و(الذين تعرف منهم وتنكر) هم الأمراء بعده ومنهم من يدعو إلى بدعة وضلالة كالخوارج.
          أقول: يحتمل أن يراد بالشر زمان قتل عثمان وبالخير بعده زمان خلافة علي.
          و(الدخن) الخوارج ونحوهم والشر بعده زمان الذين يلعنونه على المنابر.
          قوله: (ولو أن تعض) أي: ولو كان الاعتزال بأن تعض، وفيه الإشارة إلى مساعدة الإمام بالقتال ونحوه إذا كان إمام وإن كان ظالماً عاصياً والاعتزال إذا لم يكن ومر الحديث في علامات النبوة وفيه لزوم الجماعة.
          قوله: (عبد الله بن يزيد) من الزيادة المقرئ بفاعل القراء، و(حيوة) بفتح المهملة وإسكان / التحتانية وبفتح الواو ابن شريح مصغر الشرح بالمعجمة والراء والمهملة التجيبي بضم الفوقانية وكسر الجيم وبالتحتانية وبالموحدة، و(غيرة) في بعضها: عبدة ضد الحرة والأول أصح.
          و(أبو الأسود) ضد الأبيض محمد بن عبد الرحمن الأسدي يتيم عروة بن الزبير، و(بعث) أي جيش يبعث إلى الحرب، و(اكتتبت) بلفظ المجهول وبالمعروف يقال اكتتبت أي كتبت نفسي في ديوان السلطان.
          قوله: (فيرمى) فإن قلت: المعنى على أن تقدم لفظ فيرمى على فيأتي السهم إذ الإتيان بعد الرمي؟ قلت: هو من باب القلب وفي بعضها لفظة فيرمى مفقودة وهو ظاهر مر في سورة النساء.
          قوله: (أو يضربه) عطف على فيأتي لا على فيصيب يعني: يقتل إما بالسهم وإما بضرب السيف ظالماً نفسه بسبب تكثيره سواد الكفار وعدم هجرته عنهم وهذا إذا كان ماضياً محتاراً، قال مغلطاي الشارح المصري: هو حديث مرفوع لأن تفسير الصحابي إذا كان مسنداً إلى نزول آية فهو مرفوع اصطلاحاً.
          قوله: (حثالة) بضم المهملة وخفة المثلثة، هي رديء كل شيء وما لا خير فيه، و(محمد بن كثير) بالمثلثة، و(حديثين) أي: في باب الأمانة إذ له أحاديث كثيرة وأولهما في نزول الأمانة وثانيهما في رفعها، و(الجذر) بفتح الجيم وسكون المعجمة الأصل؛ أي: كانت له بحسب الفطرة وحصلت لهم بالكسب من الشريعة استفادة من الكتاب والسنة، و(الوكت) بفتح الواو وإسكان الكاف وبالمثناة والأثر اليسير وقيل: السواد وقيل اللون المخالف للون الذي قبله.
          و(المجل) بفتح الميم وسكون الجيم وفتحها، هو التنفط الذي يحصل في اليد من العمل، و(نفط) بكسر الفاء ولم يؤنث الضمير باعتبار العضو، و(منتبراً) مفتعلاً من الانتبار وهو الارتفاع ومنه المنبر، و(الأمانة) ضد الخيانة وقيل هي التكاليف الإلهية.
          وحاصله أن القلب يخلو عن الأمانة بأن تزول عنه شيئاً فشيئاً فإذا زال جزء منها زال نورها وخَلَفَته ظلمةٌ كالوكت وإذا زال شيء آخر صار كالمجل وهذه الظلمة فوق التي قبلها ثم شبه زواله بعد ثبوته في القلب واعتقاب الظلمة إياه بجمر تدحرجه على رجلك حتى يؤثر فيها ثم يزول الجمر ويبقى التنفط ومعنى المبايعة هنا البيع والشراء؛ أي: كنت أعلم أن الأمانة في الناس فكنت أقدم على معاملة من أنفق غير مبال بحاله وثوقاً بأمانته أو أمانة الحاكم عليه فإنه إن كان مسلماً فدينه يمنعه من الخيانة ويحمله على أدائها وإن كان كافراً وذكر النصراني على سبيل التمثيل.
          (فساعيه) أي: الوالي عليه يقوم بالأمانة في ولايته فينصفني ويستخرج حقي منه، وأما اليوم فقد ذهبت الأمانة فلست أثق اليوم بأحد أأتمنه على بيع أو شرى إلا فلاناً وفلاناً يعني: أفراداً من الناس قلائل.
          فإن قلت: رفع الأمانة ظهر في زمانه فما وجه قول حذيفة أنتظره؟ قلت: المنتظر هو الرفع بحيث يبقى أثرها مثل المجل ويصح الاستثناء بقوله إلا فلاناً مر متناً وإسناداً في كتاب الرقاق.
          قوله: (التعرب) أي: الإقامة بالبادية والتكلف في صيرورته أعرابيًّا، و(حاتم) هو ابن إسماعيل الكوفي، و(يزيد) بالزاي ابن أبي عبيد مصغراً، و(سلمة) بفتحتين ابن الأكوع بفتح الواو وبالمهملة الأسلمي وقد كلمه الذئب، و(الحجاج) بفتح المهملة ابن يوسف الثقفي، و(في البدو) أي: في الإقامة فيه، و(الربذة) بفتح الراء والموحدة وبالمعجمة، موضع بقرب المدينة أراد الحجاج بقوله أنك رجعت في الهجرة التي فعلتها لوجه الله تعالى بخروجك من المدينة بيان أنك تستحق القتل فأخبره بالرخصة له وقال بعضهم أن سلمة مات في آخر خلافة معاوية سنة ستين ولم يدرك زمان إمارة الحجاج.
          قوله: (عبد الرحمن بن عبد الله ابن أبي صعصعة) بفتح الصادين المهملتين وسكون العين المهملة الأولى، و(الشعف) بالمعجمة والمهملة المفتوحتين رأس الجبل وأعلاه، و(مواقع القطر) أي: التلال والبراري والأودية.
          فإن قلت: فيه أن الاعتزال أولى والقواعد الإسلامية تقتضي أولوية الاختلاط ولهذا شرع الجماعة في الصلوات لاختلاط أهل / المحلة والجمعة لأهل البلد والعيد لأهل السواد أيضاً والوقوف بعرفات لأهل الآفاق ومنع نقل اللقيط من البلد إلى القرية وجوز العكس؟ قلت: الأوقات والأحوال مختلفة فالجليس الصالح خير من الوحدة وهي من الجليس الطالح ومر الحديث في كتاب الإيمان.
          قوله: (معاذ) بضم الميم ابن فضالة بفتح الفاء وتخفيف المعجمة، و(هشام) أي: الدستوائي، و(أحفوه) بالمهملة أي: ألحوا عليه وبالغوا ورَدَدوا، و(لاحى) أي: خاصم، و(يدعى) أي: ينسب وكان اسمه عبد الله على الأصح، و(حذافة) بضم المهملة وخفة المعجمة وبالفاء السهمي، و(دون الحائط) أي: عنده، و(عباس) بفتح المهملة وشدة الموحدة وبالمهملة النرسي بفتح النون وإسكان الراء وبالمهملة، و(يزيد) من الزيادة ابن زريع مصغراً، و(سعيد) أي: ابن أبي عروبة، و(لاف) في بعضها: لافا نصباً على الحال.
          و(خليفة) بفتح المعجمة وبالفاء، ابن خياط بالمعجمة والتحتانية، و(معتمر) هو: ابن سليمان التيمي، وهو عطف على يزيد وحيث قال (خ) قال فلان: فيه إشارة إلى أنه أخذه مذاكرة لا تحديثاً وتحميلاً، وأراد بذكره هاهنا التصريح بسماع سعيد عن قتادة وسماع قتادة عن أنس هذا، ولما ألحوا على سيدنا محمد صلعم في المسئلة كره مسائلهم وعز على المسلمين الإلحاح والتعنيت عليه، وتوقعوا نزول عقوبة الله عليهم فبكوا خوفاً منها فمثل الله الجنة والنار له وأراه كل ما يسأل عنه.
          وفيه فضيلة عمر، والظاهر أن الأقوال في كيفية الاستعاذة لقوله وقال بعض الشارحين وأما استعاذته صلعم من الفتن فهو تعليم لأمته وفي رواية خليفة شر الفتن ضد الخير وفي غيرها: سوء ضد الحسن.
          الزركشي:
          (وفيه دخن) بتحريك الخاء المعجمة؛ أي: فساد واختلاف، شبه بدخان الحطب لما بينهم من الفساد الباطن تحت الصلاح الظاهر.
          (من جلدتنا) بكسر الجيم، أي: من أنفسنا.
          (يتكلمون بألسنتنا) أي: يتكلمون بالعربية، وقيل: إنهم من بني آدم خلقوا كما خلقنا ويتكلمون كما نتكلم.
          (باب التعرب) بالعين المهملة والراء، ويروى بالغين المعجمة، والتعرب: أن يعود إلى البادية ويقيم مع الأعراب بعد أن كان مهاجراً، وكان من يرجع بعد الهجرة إلى موضعه من غير عذر يعذّر به كالمرتد، ويروى بالزاي، أي: بعدت عن الجماعات والجمعات بسكنى البادية.
          (الربذة) بفتحتين موضع قريب من المدينة.
          (أن يكون خير) بالرفع والنصب.
          (شعف الجبال) بفتح الشين المعجمة والعين المهملة.
          (أحفوه) استقصوا في السؤال.


[1] في المخطوط: ((في)) ولعل الصواب ما أثبتناه.