مجمع البحرين وجواهر الحبرين

باب قول النبي: «سترون بعدى أمورًا تنكرونها»

          ░2▒ باب قول النبي صلعم: ((ستكون بعدي أموراً تنكرونها))
          وقال عبد الله بن زيد: إلى آخره.. وفيه أربعة أحاديث:
          1- حديث ابن مسعود قال: قال لنا رسول الله صلعم: ((إنكم سترون بعدي أثرة...)) الحديث.
          2- حديث الجعد، عن أبي رجاء، عن ابن عباس، عن النبي صلعم قال: ((من كره من أميره شيئاً...)) الحديث.
          3- حديث عبادة: بايعنا النبي صلعم على السمع والطاعة.. الحديث.
          4- حديث أسيد بن حضير، أن رجلاً أتى رسول الله فقال: يا رسول الله، استعملت فلاناً.. الحديث.
          أما حديث عبد الله بن زيد؛ فسلف في التفسير.
          وحديث أسيد وهو بضم الهمزة، وحضير: بضم أوله ثم ضاد مفتوحة بن سماك بن عتيك أبو يحيى أو أبو حضير أو أبو عبيد الأنصاري الأشهلي.
          أخرجه (م) في المغازي، و(ت) هنا، و(ن) هنا وفي القضاء أيضاً.
          وفي هذه الأحاديث حجة في ترك الخروج على أئمة الجور ولزوم السمع والطاعة لهم، والفقهاء مجمعون على أن الإمام المتغلب طاعته لازمة ما أقام الجماعات والجهاد، فإن طاعته خير من الخروج عليه لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء، ألا ترى قوله لأصحابه: ((سترون بعدي أثرة وأموراً تنكرونها)) فوصف أنه سيكون عليهم أمراء يأخذون الحقوق ويستأثرون بها ويؤثرون بها من لا تجب له الأثرة، ولا يعدلون فيها وأمرهم بالصبر عليهم والتزام طاعتهم على ما فيهم من الجور.
          وذكر علي بن معبد، عن علي أنه قال: لا بد من إمامة برة أو فاجرة. قيل له: هذه البرة لا بد منها، فما بال الفاجرة؟ قال: يقام بها الحدود، ويأمن بها السبيل، ويقسم بها الفيء، ويجاهد بها العدو.
          ألا ترى حديث ابن عباس وعبادة: ((وأن لا ينازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بواحاً)) يدل هذا كله على ترك الخروج على الأئمة وأن لا تشق عصا المسلمين ولا ينسب إليه سفك الدماء وهتك الحريم إلا أن يكفر الإمام ويظهر خلاف دعوة الإسلام، فلا طاعة لمخلوق عليه، وسلف هذا في الجهاد ويأتي في الأحكام.
          قال الداودي: / قوله: (سترون بعدي أثرة) يعني: للأنصار وصاهم أن يصبروا عندما ينقصون من حظهم في العطاء.
          قوله: (أثرة) هو من الاستئثار بالشيء، والاسم: الأثرة.
          قوله: (أدوا إليهم حقهم) يعني: الزكوات والخروج في البعوث وغيرها من حقوقهم.
          قوله: (وسلوا الله حقكم) قال الداودي: يقول: اسألوا الله أن يأخذ لكم حقكم ويقيض لكم من يؤديه إليكم. قال زيد: يسألون الله سرًّا؛ لأنهم إن سألوه جهراً كان سباًّ للولاة، ويؤدي إلى الفتنة.
          قوله: (من خرج من الجماعة شبراً) يعني: في الفتنة التي يكون فيها بعض المكروه.
          قوله: (مات ميتة جاهلية) أي: صار فعله فعل الجاهلية الذين يستحلون قتل بعضهم بعضاً، وميتة بكسر الميم كالجلسة والركبة.
          قوله: (في منشطنا) أي: حين نشاطنا وهو بفتح الشين؛ لأن ماضيه نشط بكسرها.
          قوله: (ومكرهنا) أي: في الأشياء التي يكرهونها. قاله الداودي.
          قال ابن التين: والظاهر أنه أراد في وقت الكسل والمشقة في الخروج فيكون مطابقاً لقوله: منشطنا.
          قوله: (وأن لا ننازع الأمر أهله) أي: لا يخرج على المتولي قال الداودي: الذي عليه العلماء في أمر أئمة الجور إن قدر على خلعه من غير فتنة تكون ولا ظلم فعلى الناس خلعه، وإن لم يوصل إلى ذلك إلا بارتكاب محض الظلم فهو الذي أمروا فيه بالصبر. وقال أبو محمد عبد الجليل في ((نكت التمهيد)): أجمعوا أنه لا يجوز ابتداء العقد لفاسق ولا لساقط العدالة، فلو عقد للعدل ثم أحدث جوراً أو غصباً للمال وانتهاك المحارم. ففي جواز الخروج عليه قولان:
          قال الشيخ أبو الحسن: يجوز إذا أمن الناس.
          وقال هو والقاضي: لا يجوز ولا يسوغ عزله وإن أمن الناس؛ لأن الأحاديث في ذلك كثيرة، فلا يجوز الخروج عليه بجور يحدثه، إلا أن يكفر أو يدعو إلى بدعة وضلالة فيجوز حينئذ الخروج عليه لا غير، ويدل على صحة هذا القول قوله: ((إلا أن تروا كفراً بواحاً)) أي صراحاً ظاهراً من قولهم: باح بسره. أي: أظهره.
          قال الخطابي: ((بواحا)) يريد ظاهراً بادياً، ومنه قوله: باح بالشيء يبوح به بوحاً وبؤوحاً إذا أذاعه وأظهره، ومن رواه: (براحا) فالبراح بالشيء مثل البواح أو قريب منه، وأصل البراح: الأرض القفر التي لا أنيس ولا بناء فيها. وقال غيره: البراح البيان، يقال: برح الخفاء؛ أي: ظهر.
          وفي حديث آخر: ((استقيموا لقريش ما استقامت لكم)) أي: ما أطاعوا الله.
          قوله: (عندكم من الله فيه برهان) يريد: نص آية أو توقيفاً يحتمل التأويل مثل: قد جاءكم من ربكم وما دام فعلهم يحتمل وجهاً من التأويل فلا يجوز الخروج عليهم، وقد مثل بعض أحبار المتأخرين من يقوم على السلطان بمن يبني قصراً ويهدم مصراً.
          قوله: (استعملت فلاناً ولم تستعملني) قال: ((فإنكم سترون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني)). قال الداودي: هو كلام نفى بعضه، وهذا كلام ليس من الأول، إلا أنه أخبر عن هذا الرجل بمن يرى الأثرة وأوصاهم بالصبر.
          قلت: الظاهر أنه كلام وأنه جواب لما ذكر.
          والجعد السالف هو ابن دينار السكري البصري الصيرفي، سمع أبا رجاء العطاردي عمران بن ملحان، ويقال: إبراهيم وأنس بن مالك اتفقا عليه، وعلى الجعد بن عبد الرحمن بن أوس، ويقال في هذا: جعيد أيضاً مصغراً. وليس في ((الصحيحين)) جعد غيرهما.