مجمع البحرين وجواهر الحبرين

باب قول النبي: «لا نورث ما تركنا صدقة »

          ░3▒ باب قول النبي صلعم: ((لا نورث ما تركنا صدقة))
          فيه حديث عائشة مرفوعاً كذلك من طريقين. وحديث مالك بن أوس فيه مطولاً وحديث أبي هريرة وعائشة أيضاً، وقد أسلفت في الخمس بيان ذلك.
          فإن قلت: كيف تناول علي والعباس منها؟ قلت: إنما حرم عليهم الصدقة الواجبة أو أكلاه بحق العمل. قال ابن جرير: وعلم الصديق والفاروق بما دل عليه ظاهر الخبر فيما كان له ◙ في فدك وخيبر وغيرهما، ففعلا ما كان يفعله في حياته، وذهب عثمان إلى أن ذلك للغنم بعده يصرفه فيما يراه، ولذلك أقطعه مروان. قال القاضي أبو بكر: ولا طعن عليه فيه لاعتقاده السالف.
          وقال: (لا يقتسم ورثتي دينارا ولا درهما) نهاهم عنه على غير قطع بأنه لا يخلف ديناراً ولا درهماً، ويجوز أن يملك ذلك قبل موته فنهاهم عن قسمته، وكأنه قال: ((لا يقتسم)) على الخبر وتكون الرواية فيه برفع الميم على معنى: ليس يقتسم.
          قوله: (ونفقة نسائي) سببه أنهن محبوسات عنده، فإنهن محرمات على غيره بنص القرآن.
          وفي قوله: (لا يقتسم) دلالة على جواز الوقف، وأنه يجري بعد الوفاة كالحياة، ولا يباع ولا يملك، كما حكم الشارع فيما أفاء الله عليه بأنه لا يورث ولكن يصرف لما ذكره، والباقي لمصالح المسلمين.
          وعن أبي هريرة: أن النبي صلعم قال: ((إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة)) فهذا عام في جميع الأنبياء، ولا يعارضه قوله: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [النمل:16]؛ لأن المراد إرث النبوة والعلم والحكم، وكذلك قوله: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم:6] المراد: النبوة والعلم؛ لأن ذلك إذا صار لولده لحقه من الفضل أكثر مما يلحقه إذا صار ذلك إلى غير ولده؛ لقوله ◙: ((إن الرجل ليرفع بدعاء ولده من بعده)) فرغب زكريا أن يرث علمه ولده الذي يخرج من صلبه، فيكون تقدير الآية على هذا {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ} [مريم:5] وهم بنو العم والعصبة أن يصير إليهم العلم والحكمة من بعدي، ومصير ذلك إلى ولدي أحب إلي فأضمر ذلك. /
          وقال أبو علي النسوي: والخوف لا يكون من الأعيان، وإنما يكون بما يؤول منها، فإذا قيل: خفت الله تعالى وخفت الناس، فالمعنى في ذلك: خفت عقاب الله وملامة الناس، فلذلك قوله: {خِفْتُ الْمَوَالِيَ}: أي: بني عمي، فحذف المضاف، والمعنى؛ خفت تضييعهم الدين وكيدهم إياه، فسأل ربه تعالى، وليؤثر نبوته وعلمه لئلا يضيع الدين، ويقوي ذلك ما روي عن الحسن البصري في قوله {يَرِثُنِي} [مريم:6]: أي: نبوتي.
          وفي قوله: (إنا معشر الأنبياء لا نورث) ما يدل أن الذي سأل ربه أن يرث ولده النبوة لا المال، ولا يجوز على نبي الله أن يقول: أخاف أن يرثني بنو عمي وعصبتي ما فرض الله لهم من مالي، وكان الذي حملهم على ذلك ما شاهدوه من تبديلهم الدين وقتلهم الأنبياء.