مجمع البحرين وجواهر الحبرين

باب: نزل تحريم الخمر وهي من البسر والتمر

          ░3▒ باب نزل تحريم الخمر وهو من البسر والتمر
          فيه حديث أنس قال: كنت [أسقي] أبا عبيدة وأبا طلحة الحديث.
          ويأتي أيضاً في خبر الواحد، القائل: ((وحدثني بعض أصحابنا)) هو سليمان التيمي والد معتمر، وقد بينه (م) إذ رواه عن محمد بن عبد الأعلى، عن معمر، عن أبيه قال: حدثني بعض من كان معي أنه سمع أنساً يقول: كانت خمرهم يومئذ، وعنده أيضاً أنه كان يسقي أبا أيوب وأبا دجانة ومعاذ بن جبل وسهيل بن بيضاء، وعند أحمد بن حنبل: وما نعدها يومئذ إلا خمراً وكانوا أحد عشر رجلاً، قال أنس: فكفأتها وكفأ الناس آنيتهم بما فيها حتى كادت السكك أن تمتنع من ريحها / .
          والفضيخ عند أكثر أهل العلم فيما نقله أبو عمر: نبيذ التمر، وقال أبو عبيد بن سلام: هو ما افتضخ من البسر من غير أن تمسه النار.
          وقال ابن سيده في ((محكمه)): هو عصير العنب، وهو يتخذ من البسر المفضوخ.
          وفي ((مجمع الغرائب)) هو فضيخ أو فضوخ لأنه من البسر المشدوح أو لأنه يسكر صاحبه فيفضخه.
          قال أبو عمر: وسئل عنه ليس بالفضيخ ولكنه الفضوخ.
          وفي ((الصحاح)): هو من البسر وحده.
          وهذا الباب كالذي قبله حجة على العراقيين أن الخمر من العنب وحده؛ لأن الصحابة القدوة في علم اللسان ولا يجوز عليهم أن يفهموا أن الخمر إنما هي من العنب خاصة ويهريقوا جرار الفضيخ وهي غير خمر، وقد نهى عن إضاعة المال وإنما هراقوها لأنها الخمرة المحرمة عندهم من غير شك، ولو شكوا في ذلك لسألوا رسول الله صلعم عن عيبها وما يقع عليه اسمها، وقد قال أنس: إنهم لم يعودوا فيها حتى لقوا الله تعالى.
          قال إسماعيل بن إسحاق: جاء في الآثار في تفسير الخمر ما هي واللغة المشهورة، والنظر ما يعرفه ذوو الألباب بعقولهم أن كل شيء أسكر فهو خمر، وأما كتاب الله فقوله: {وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا} [النحل:67] فعلم أن السكر من العنب مثل السكر من النخيل، وقال تعالى: {لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى} [النساء:43] فنهى عن الصلاة في حال السكر، واستوى في ذلك السكر من ثمرات الأعناب والسكر من ثمرات النخيل فكما كان السكر من النخيل والأعناب منهي عن الصلاة فيه، كذلك كانت الخمر من ثمرات النخيل والأعناب محرمة بهذه الآية.
          وأبو عبيدة اسمه عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر.
          وأبو طلحة اسمه زيد بن سهل بن الأسود بن حرام بن عم حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك النجار.
          وفي السند الأخير لحديث أنس أبو معشر: البراء هو بتشديد الراء وهو يوسف بن يزيد البصري وشيخه سعيد بن عبيد الله بن جبير بن حية الثقفي البصري، انفرد به (خ) وانفرد أيضاً (خ) بجده حية بن حية بن مسعود بن معتب بن مالك بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقيف تابعي عنه أبيه زياد وبكر بن عبد الله ولاه زياد أصبهان، وتوفي أيام عبد الملك بن مروان، وأبيه زياد بن جبير تابعي أيضاً.
          باب الخمر من العسل وهو البتع
          وقال معن: سألت مالكاً عن الفقاع إلى آخره ثم ساق حديث عائشة، سئل رسول الله صلعم عن البتع الحديث.
          التعليق الأول أخذه (خ) عن معن مذاكرة، ورواية أنس هذه معطوفة على شعيب وهو القائل، وعن الزهري، فلذلك ساغ لأبي نعيم الحافظ وأصحاب الأطراف أن يقولوا: رواه (خ) عن أبي اليمان عن شعيب، وأما حديث عائشة فأخرجه (م) والأربعة وسلف في الطهارة.
          قوله: (وكان أبو هريرة يلحق معهما الحنتم والنقير) رواه ابن سعد عن محمد بن بشير ومحمد بن عبيد، عن محمد بن عمرو، وعن أبي سلمة عنه بلفظ: نهى رسول الله صلعم أن ننتبذ في المزفت والدباء والحنتم والنقير.
          والبتع بكسر بائه، وتاؤه تسكن وتفتح: مثل قمع وقمع: وهو نبيذ العسل كما في الأصل.
          وذكر أبو حنيفة الدينوري أن البتع خمر متخذة من العسل، والبتع أيضاً الخمر يمانية.
          قال ابن سيده: بتعها: خمرها، والبتاع: الخمار.
          قال الأثرم: هذه المسألة قل ما يوجد في السنن مثلها(1)، وذلك أنه جاء عن رسول الله صلعم النهي عن الظروف التي ينبذ فيها والرخصة في الأسقية التي تلاث على أفواهها، ثم جاءت الرخصة فيها إذا لم يكن الشراب فيها مسكراً، ثم جاء النهي عنها أيضاً بعد الرخصة فرجع الأمر فيها إلى النهي.
          فصل:
          في حد السكر: قال ابن حزم: سئل أحمد بن صالح عن السكران؟
          فقال: أنا آخذ بما رواه ابن جريج سئل عن عمرو بن دينار، عن يعلى بن منبه، عن أبيه قال: سألت عمر بن الخطاب عن حد السكران؟ فقال: هو الذي إذا / استقرئ سورة لم يقرأها، وإذا خلط ثوبه في ثياب لم يخرجه. وقال أبو حنيفة: لا يكون سكراناً حتى لا يميز الأرض من السماء. وأباح كل سكر دون هذا وهذا عجيب.
          وقال ابن المنذر: قال مالك: هو أن يتغير عن طباعه التي هو عليها، وهو قول أبي ثور، وقال الثوري: لا يجلد إلا في اختلاط العقل، فإن استقرئ فقرأ أو سئل فتكلم بما يعرف لم يحد وإلا حد.
          وقال أبو حنيفة: هو أن لا يعرف الرجل من المرأة، وقال مرة: أن لا يعرف قليلاً ولا كثيراً.
          وقال الشافعي: أقل السكر أن يغلب على عقله في بعض ما لم يكن عليه قبل الشراب.
          قال ابن المنذر: وهذا أولى بالصواب لقوله تعالى: {لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} [النساء:43].
          وهذا الباب حجة لقول مالك وأهل الحجاز أن السكر كله من أي نوع كان من غير العنب فهو الخمر المحرم في الكتاب والسنة، ألا ترى أنه ◙ سئل عن البتع فقال: ((كل شراب أسكر حرام)) فعلمنا أن المسألة إنما وقعت على ذلك الجنس من الشراب ودخل فيه كل ما كان في معناه مما يسمى شراباً مسكراً من أي نوع كان.
          فإن قال الكوفي: إن قوله: ((كل شراب أسكر)) يعني به الجزء الذي يحدث بعقبه السكر فهو حرام.
          فجوابه: أن الشراب اسم جنس فيقتضي أن يرجع التحريم إلى الجنس وهذا كما نقول: هذا الطعام مشبع الماء مر ويريد به الجنس وكل جزء منه يفعل ذلك الفعل، فكذلك النبيذ.
          قال الطبري: يقال لهم: أخبرونا عن الشربة التي كان يعقبها السكر أهي التي أسكرت شاربها دون ما تقدمها أو من الاجتماع معها وأحدثت كل شربة بحظها من الإسكار؟ فإن قالوا بالأول قيل لهم: وهل هذه التي حدث له ذلك عن شربها إلا لبعض ما تقدم من الشربات قبلها في أنها لو انفردت دون ما تقدم قبلها كانت غير مسكرة وحدها، وإنها إنما أسكرت باجتماعها واجتماع عملها، فحدث عن جميعها السكر، يوضحه لو أن رطلاً من ماء العنب ألقيت فيه قطرة من خل فلم يتغير طعمه إلى الحموضة ثم تابعت ذلك بقطرات كثيرة كل ذلك لا يتغير لها طعم الماء، ثم ألقينا آخر ذلك قطرة منه فتغير طعمه وحمض أترونه حمض من الآخرة أم حمض منها وغيرها؟
          فإن قالوا: من الآخرة، فقد قالوا ما يعلم العقلاء خلافه، فكابروا العقول؛ لأن أمثالها قد ألقيت فيه ولم يحدث ذلك فيه، فكان معلوماً بذلك أن الحموضة حدثت عن جميع ما ألقي من الخل، وأنه لولا قوة عمل ما تقدم من قطرات الخل المتقدمة مع عمل الأخيرة فيه لم يحدث ذلك فيه، وإن قالوا حمض بالكل ولكنه ظهرت بالأخيرة، قيل لهم: فهلا قلتم ذلك في الشراب الذي أسكر كثيره إنما أسكر باجتماع قوة الكل، ولكن السكر إنما ظهر فيه عند الأخيرة مع سائرها، كما قلتم في الماء الذي ظهرت فيه حموضة الخل، فتعلموا بذلك أن كل شراب أسكر كثيره يستحق بذلك قليله اسم مسكر.
          قال المهلب: وإنما دخل الوهم على الكوفيين من حديث رووه عن ابن عباس: ((حرمت الخمر بعينها والمسكر من غيرها))، وكذلك رواه شعبة بسنده عن ابن عباس، والسكر من غيرها، فهذا كله يدل على الوهم.
          وقد روي: ((كل مسكر حرام)) عن رسول الله جماعة منهم: أبو موسى الأشعري، وأبو هريرة، وابن عباس، والنعمان بن بشير، وبريدة الأسلمي، ووائل بن حجر، وعبد الله بن مغفل، وعبد الله بن عمرو، وأبو سعيد الخدري، ومعاوية، وأم سلمة، وعائشة، وابن مسعود، ذكرها الطبري في ((تهذيبه)).
          فإن قال الكوفي: الدليل على صحة قولنا في التفريق بين عصير العنب وبين سائر الأشربة / أن الآية كفرت مستحل عصير العنب دون نقيع التمر، فاعتلالهم بالتكفير ليس بشيء؛ لأنه إنما يقع فيما يثبت بالإجماع لا فيما ثبت من جهة الآحاد، ألا ترى أنه لا يكفر القائل بأن الصلاة تجوز بغير أم القرآن، ولا يكفر من أجاز النكاح بغير ولي، ولا من قال: الوضوء جائز بغير نية وأمثاله(2)، وكذا من قال: لا يقطع سارق ربع دينار مع ثبوته عن رسول الله في أخبار الآحاد، و[لا يسع] أحد من العلماء أن يحرم ما قام له الدليل على تحريمه من الكتاب والسنة، وإن كان غيره يخالفه فيه لدليل استدل به ووجه من العلم أداه إليه وليس في شيء من هذا خروج من الدين ولا يكفر بما فيه الخطأ والصواب.
          فإن قلت: ما وجه إدخال حديث أنس في الباب، وليس فيها إلا النهي عن الانتباذ؟ أجاب عنه المهلب بأن قال هو موافق للتبويب، وذلك أن الخمر من العسل لا يكون إلا منبذاً في الأواني بالماء الأيام حتى يصير خمراً، وأنه ◙ إنما نهى عن الانتباذ في الظروف المذكورة؛ لسرعة كون ما ينبذ فيها خمراً من كل ما ينبذ فيها.
          وأوضح ابن التين الرد على المخالف، فقال: فيه رد على من قال: إن الإشارة بالمسكر في قوله: ((ما أسكر كثيره فقليله حرام)) إنما وقعت الشربة الأخيرة أو إلى الجزء الذي يظهر السكر على شاربه عند شربه، وذلك أنه معلوم من طريق العادة أن الإسكار لا يختص بجزء من الشراب دون جزء، وإنما يؤخذ أجزاء السكر في أجزاء المشروب على سبيل التعاون كالشبع بالمأكول وكل أمر يؤدي إلى نقص المتعارف فهو منقوص وليس في المعارف أن يكون فعل الجزء من الشيء أكثر من فعله كله، هذا محال وليس يخلو الشراب الذي يسكر كثيره إذا كان في الإناء أن يكون حلالاً أو حراماً، فإن كان حراماً لم يجز أن يشرب منه قليل، وإن كان حلالاً لم يجز أن يحرم منه شيء.
          فإن قلت: الشراب حلال في نفسه ونهى الله أن يشرب منه ما يزيل العقل، قيل: ينبغي أن تكون الشربة التي تزيله وتسكر معلومة يعرفها كل شارب، إذ غير جائز أن يحرم الله تعالى على خلقه شيئاً ويتعبدهم به ولا يحصل لهم السبيل إلى معرفة ما حرم.
          ومعلوم أن طباع الناس مختلفة في مقدار ما يسكرهم منه، والتعبد لا يقع إلا بمعلوم. فإن قيل: لما اختلف الناس في الأشربة وأجمعوا على تحريم خمر العنب، حرمنا ما أجمعوا على تحريمه وأبحنا ما سواه.
          قيل: أمر الله... أن يردوا ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله، وكل مختلف فيه من الأشربة مردود إلى تحريم الله ورسوله الخمر، وقد ثبت عنه ◙: ((كل شراب أسكر فهو حرام)) وأشار إلى الجنس بالاسم العام والنعت الخاص الذي هو علة الحكم، فكان ذلك حجة على المختلفين، ولو لزم ما قاله هذا القائل للزم مثله في الربا والصرف ونكاح المتعة؛ لأن الأمة قد اختلفت فيها، وقال الزجاج: قياس كل ما عمل عمل الخمر المجمع عليها أن يقال له: خمر وأن يكون بمنزلتها في التحريم؛ لأن إجماعهم أن يقال للقمار: كله حرام وإنما ذكر الميسر من بينه فجعله كله قياساً على الميسر، وهو إنما كان قماراً خاصة، فلذلك كل ما كان كالخمر فهو بمنزلتها.


[1] في هامش المخطوط: أقول: نسخ القبلة وتحريم المتعة مثلها حصل مرات.
[2] في هامش المخطوط: ولا يكفر من يجوز الوضوء بنبيذ التمر مع نجاسته عندنا ولا يكفر من يثبت النسب من الزنا ويقول لبنت الزنا أنه لا يجوز نكاحها.