نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: ادفني مع صواحبي ولا تدفني مع النبي

          7327- 7328- (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ) الهباريُّ، قال: (حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ) حمَّاد بن أسامة (عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ) عروة بن الزُّبير (عَنْ عَائِشَةَ) ♦، أنَّها (قَالَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ) أي: ابن العوَّام ابن أسماء أخت عائشة ♦ (ادْفِنِّي) إذا متُّ (مَعَ صَوَاحِبِي) بالتخفيف؛ أي: أمَّهات المؤمنين ╢ في مقبرة البقيع.
          (وَلاَ تَدْفِنِّي) بفتح الفوقية وتشديد النون (مَعَ النَّبِيِّ صلعم بِالبَيْتِ) وفي نسخةٍ: <في البيت> أي: في حجرتي الَّتي دُفن فيها النَّبيُّ صلعم وصاحباه (فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُزَكَّى) بضم الهمزة وفتح الزاي والكاف المشددة، على البناء للمفعول، من التَّزكية، المعنى: أنَّها كرهت أن يُظنَّ أنَّها أفضل الصَّحابة بعد النَّبي صلعم وصاحبيه، أو أنَّها كرهت أن يُثنَى عليها بما ليس فيها، بل بمجرَّد كونها مدفونةً عنده صلعم وصاحبيه دون سائر أمَّهات المؤمنين، فيُظنَّ أنَّها خُصَّت بذلك دونهنَّ لمعنى فيها ليس فيهنَّ، وهذا منها غايةٌ في التَّواضع.
          (وَعَنْ هِشَامٍ) بالسَّند السَّابق، وقد وصله الإسماعيليُّ من وجهٍ آخر (عَنْ أَبِيهِ) عروة (أَنَّ عُمَرَ) بن الخطَّاب ☺ (أَرْسَلَ إِلَى عَائِشَةَ) ♦. قال الحافظ العسقلانيُّ: هذا صورته الإرسالُ؛ لأنَّ عروة لم يُدرك زمن إرسال عمرَ إلى عائشة، لكنَّه محمولٌ على أنَّه حمله عن عائشة، فيكون موصولاً.
          (ائْذَنِي لِي أَنْ أُدْفَنَ) بضم الهمزة وفتح الفاء (مَعَ صَاحِبَيَّ) بالتَّثنية أراد بهما رسولَ الله صلعم وأبا بكرٍ ☺ (فَقَالَتْ: إِي) بكسر الهمزة وسكون التحتية (وَاللَّهِ) حرف جوابٍ؛ يعني: نعم ولا يقع بعده إلَّا القسم(1) .
          (قَالَ) عروة بن الزُّبير: (وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَرْسَلَ إِلَيْهَا مِنَ الصَّحَابَةِ) فيه حذف تقديره: إذا أرسل إليها من الصَّحابة يسألها أن يُدفن معهم، وجواب الشَّرط قوله: (قَالَتْ: لاَ وَاللَّهِ، لاَ أُوثِرُهُمْ بِأَحَدٍ أَبَداً) بالمثلثة. يقال: آثر كذا بكذا؛ أي: أتبعه إيَّاه؛ أي: لا أُتبعهم بدفنٍ آخر معهم. وقال صاحب «المطالع» ابن قُرْقول: هو من باب القلبِ؛ أي: لا أوثر بهم أحداً، ويُحتمل أن يكون لا أثيرهم / بأحدٍ؛ أي: لا أنبُشهم لدفن أحدٍ، والباء بمعنى اللام.
          واستشكله ابن التِّين بقول عائشة ♦ في قصَّة عمر ☺: ((لأوثرنَّه على نفسي))، ثمَّ أجاب: باحتمال أن تكون آثرت عمر به المكان الَّذي دُفن فيه من وراء قبرِ أبيها بقرب النَّبي صلعم ، وذلك لا ينفِي وجود مكانٍ آخر في الحجرة. وذكر ابن سعدٍ من طرق: أنَّ الحسن بن عليٍّ ☻ أوصى أخاهُ أن يدفنَه عندهم إن لم يقعْ بذلك فتنةٌ، فصدَّه عن ذلك بنو أميَّة، فدُفِنَ بالبقيع.
          وأخرج التِّرمذي من حديث عبد الله بن سَلَامٍ، وقال: مكتوبٌ في التَّوراة صفةُ محمدٍ صلعم ، وعيسى ابن مريم ♂ يُدفنُ معه. قال أبو مودود أحدُ رواته: وبقي في البيتِ موضع قبره. وفي رواية الطَّبراني: يدفن عيسى مع رسول الله صلعم وأبي بكرٍ وعمر ☻ ، فيكون قبراً رابعاً.
          قال ابن بطَّال عن المهلب: إنَّما نهت عائشة ♦ أن تُدفن معهم خشية أن يظنَّ أحدٌ أنَّها أفضل الصَّحابة بعد النَّبيِّ صلعم وصاحبيه.
          فقد سأل الرَّشيد مالكاً عن منزلة أبي بكرٍ وعمر ☻ من النَّبيِّ صلعم في حياته فقال: كمنزلتهما منه بعدَ مماته، فزكَّاهما بالقرب منه في البقعة المباركة، والتُّربة الَّتي خُلِق منها، فاستُدِلَّ على أنَّهما أفضل الصَّحابة باختصاصهما بذلك.
          وقد احتجَّ أبو بكرٍ الأبهري المالكي: بأنَّ المدينة أفضل من مكَّة بأنَّ النَّبي صلعم مخلوقٌ من تربة المدينة، وهو أفضل البشر، فكانت تربته أفضل التُّرب. انتهى.
          وكون تربته أفضل التُّرب لا نزاع فيه، وإنَّما النِّزاع: هل يلزم من ذلك أن تكون المدينة أفضل من مكَّة؛ لأنَّ المجاور للشَّيء لو ثبت له جميع مزاياه لَما جاوز ذلك المجاور نحو ذلك، فيلزم أن يكون ما جاور المدينة أفضل من مكَّة، وليس كذلك اتِّفاقاً، كذا أجاب به بعض المتقدِّمين، وفيه نظرٌ.
          ومطابقة الحديث للتَّرجمة تؤخذ من قوله: ((أن أدفنَ مع صاحبيَّ))، يعني: في قبر النَّبيِّ صلعم ، والحديث من أفراده.


[1] عبارة الإرشاد ولا تقع إلا مع القسم.