نجاح القاري لصحيح البخاري

باب ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وحض على اتفاق أهل العلم

          ░16▒ (باب: مَا ذَكَرَ النَّبِيُّ صلعم ) «ذَكَرَ» على البناء للفاعل، و«النَّبيُّ» مرفوع بالفاعليَّة (وَحَضَّ) بفتح الحاء المهملة وتشديد الضاد المعجمة؛ أي: حرَّض (عَلَى اتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ) وقال الكرمانيُّ: ويُروى: ((وما حضَّ عليه من اتِّفاق أهل العلم)) وهو من باب تنازع العاملَين، وهما «ذكرَ» و«حضَّ» (وَمَا أَجْمَعَ) بهمزة قطع، وفي رواية أبي ذرٍّ عن الكُشميهني: <وما اجتمع> بهمزة وصل وزيادة فوقية بعد الجيم (عَلَيْهِ الْحَرَمَانِ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ) أراد ما اجتمع عليه أهلهما من الصَّحابة ♥ [و] لم يخالف صاحبٌ من غيرهما فهو إجماعٌ، كذا قيَّده ابن التِّين، ثمَّ نقل عن سحنون: أنَّه إذا خالف ابن عبَّاس أهل المدينة لم ينعقد لهم إجماعٌ.
          وقال الكرمانيُّ: وإذا اتَّفق أهل عصر من أهل العلم على قول حتَّى ينقرضوا، ولم يتقدَّم فيه خلافٌ فهو إجماعٌ، واختلف إذا كان من الصَّحابة اختلافٌ، ثمَّ أجمعَ من بعدهم على أحدِ أقوالهم، هل يكون ذلك إجماعاً، والصَّحيح: أنَّه ليس بإجماعٍ، واختلف في الواحد إذا خالفَ الجماعة، هل يؤثِّر في إجماعهم، وكذلك في اثنين وثلاثةٍ من العدد الكثير؟
          وقال ابن بطَّال: اختلف أهل العلم فيما / يتَّفقُ عليه أهل المدينة هل يكون حجَّةً على غيرهم من الأمصار، فكان الأبهريُّ يقول: أهل المدينة حجَّة على غيرهم من طريق الاستنباط، ثمَّ رجعَ فقال: قولهم من طريق النَّقل أولى من طريق غيرهم، وهم وغيرهم سواءٌ في الاجتهاد، وهذا قول الشَّافعيِّ، وذهب أبو بكر بن الطَّيب إلى أنَّ قولهم أَولى من طريق الاجتهاد والنَّقل جميعاً، وذهب أصحاب أبي حنيفة: إلى أنَّهم ليسوا بحجَّةٍ على غيرهم، لا من طريق النَّقل، ولا من طريق الاجتهاد.
          وقال المهلَّب: غرض البخاريِّ في الباب: تفضيل المدينة بما خصَّها الله به من معالم الدِّين، وأنَّها دار الوحيِّ، ومهبط الملائكة بالهدى والرَّحمة، وبقعةٌ شرَّفها الله تعالى بسكنى رسوله، وجعل فيها قبره ومنبره، وبينهما روضةٌ من رياض الجنَّة.
          هذا ثُمَّ إنَّ الإجماع المصطلح: اتِّفاق المجتهدين من أمَّة محمد صلعم على أمرٍ من الأمور الدِّينية بشرط أن يكون بعد وفاته صلعم ، فخرج بالمجتهدين العوام، وعُلِم اختصاصه بالمجتهدين، والاختصاص بهم اتِّفاقٌ فلا عبرة باتِّفاق غيرهم اتِّفاقاً، وعُلِم عدم انعقاده في حياته صلعم من قوله: بعد وفاته، ووجهه أنَّه إن وافقهم فالحجَّة في قوله، فلا اعتبار بقولهم.
          وعُلِم أنَّ إجماع كلٍّ من أهل المدينة النَّبويَّة، وأهل البيت النَّبوي وهم فاطمة وعلي والحسن والحسين ♥ والخلفاء الأربعة، والشَّيخين أبي بكرٍ وعمر، وأهل الحرمين مكَّة والمدينة، وأهل المصرَين الكوفة والبصرة غير حجَّة؛ لأنَّه اجتهاد بعض مجتهد الأمَّة لا كلُّهم، خلافاً لمالك في إجماع أهل المدينة.
          وعبارة المؤلِّف تشعر بأنَّ اتِّفاق أهل الحرمين كلهم إجماعٌ، لكن قال الحافظ العسقلانيُّ: لعلَّه أراد التَّرجيح به لا دعوى الإجماع، والله أعلم.
          (وَمَا كَانَ بِهَا) أي: بالمدينة (مِنْ مَشَاهِدِ النَّبِيِّ صلعم وَ) مشاهد (الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ) إشارةٌ إلى أنَّ المدينة مشهد النَّبي صلعم ، ومشهد المهاجرين، ومشهد الأنصار، وأصله: مِنْ شهد المكان شهوداً: حضره (وَمُصَلَّى النَّبِيِّ صلعم ) عطفٌ على «مشاهد النَّبي»، وهو موضعٌ يُصلِّي فيه (وَالْمِنْبَرِ وَالْقَبْرِ) معطوفان عليه.
          وهذه أيضاً إشارة إلى تفضيل المدينة بما ذُكِر، لاسيَّما وما بين المنبرِ والقبر روضةٌ من رياض الجنَّة، ومنبره على حوضه. وفي رواية أبي ذرٍّ عن الحمويي والمستملي: <وما كان بهما> بلفظ التثنية والإفراد أَولى؛ لأنَّ ما ذكره في الباب كلُّه يتعلَّق / بالمدينة وحدها، وإن قال الحافظ العسقلانيُّ: والتَّثنية أولى.