نجاح القاري لصحيح البخاري

باب الاقتداء بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم

          ░4▒ (بابُ الاِقْتِدَاءِ بِأَفْعَالِ النَّبِيِّ صلعم ) ولم يوضِّح ما حكم الاقتداء بأفعاله صلعم ؛ لمكان الاختلاف فيه. والأصل فيه: قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]، ولكن اختلفوا فيه: فقال قومٌ: يجب اتِّباعه في فعله، كما يجب اتِّباعه في قوله؛ / لعموم قوله تعالى: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر:7]، ولقوله تعالى: {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، حتَّى يقوم دليلٌ على النَّدب أو الخصوصيَّة، كذا قاله الدَّاودي، وبه قال ابن سُريجٍ (1) وأبو سعيد الإصطخري وابن خيران. وقال آخرون: يحتمل الوجوب والنَّدب والإباحة، فيحتاج إلى القرينة، وبه قال أبو بكر بن أبي الطَّيب. وقال آخرون: للنَّدب إذا ظهر وجه القربة، وقيل: ولو لم يظهر، ومنهم من فصَّل بين التِّكرار وعدمه.
          وقال آخرون: ما يفعله [ صلعم ] إن كان بياناً لمجملٍ، فحُكمه حكم ذلك المجمل وجوباً، أو ندباً، أو إباحةً، وإلَّا فإنَّ ظهر وجه القربة فللنَّدب، وما لم يظهر فيه وجه القُربة؛ فللإباحة. وقال الشَّافعيُّ: إنَّه يدلُّ على النَّدب. وقال مالك: يدلُّ على الإباحة.
          وأمَّا تقريره على ما يُفعل بحضرته، فيدلُّ على الجواز، والمسألة مبسوطةٌ في أصول الفقه.
          وللشَّيخ الحافظ صلاح الدِّين العلائي في هذا الباب مصنَّفٌ جليلٌ، وحاصل ما ذكر فيه ثلاثة أقوالٍ:
          أحدها: يقدُّمُ القول؛ لأنَّ له صيغة تتضمَّن المعاني، بخلاف الفعل.
          ثانيها: الفعل؛ لأنَّه لا يَطْرُقه من الاحتمال ما يطرقُ القول.
          ثالثها: يفزَّع إلى التَّرجيح، وكلُّ ذلك محلُّه ما لم تقم قرينةٌ تدلُّ على الخصوصيَّة.
          وذهب الجمهور إلى الأوَّل. والحجَّة له: أنَّ القول يُعبَّر به عن المحسوس والمعقول، بخلاف الفعل فيختصُّ بالمحسوس، فكان القول أتم، وأنَّ القولَ متَّفق على أنَّه دليلٌ بخلاف الفعل، وأنَّ القولَ يدلُّ بنفسه بخلاف الفعل، فيحتاجُ إلى واسطة، وأنَّ تقديم الفعل يُفضي إلى ترك العمل بالقول، والعمل بالقول يمكن معهُ العمل بما دلَّ عليه الفعل، فكان القول أرجحُ بهذه الاعتبارات، والله تعالى أعلم.


[1] في العمدة: ابن شريح.