نجاح القاري لصحيح البخاري

باب الاقتداء بسنن رسول الله

          ░2▒ (بابُ) وجوب (الاِقْتِدَاءِ بِسُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلعم ) الشَّاملة لأقواله وأفعاله وأحوالهِ. وقد أمر الله ╡ باتِّباع نبيِّه، والاقتداء بسنَّته، فقال: {آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النور:62]، وقال: {فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ} [الأعراف:157] الآية، وتوعَّد من خالف سبيله، ورغب عن سنَّته، فقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور:63] الآية.
          (وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) بالجرِّ عطفاً على الاقتداء ({وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74]) أفرده للجنس، وحسَّنَهُ كونه رأسَ فاصلةٍ، أو: جعل كلَّ واحدٍ منَّا إماماً، كما قال: {يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} [غافر:67]، أو: لاتِّحادهم واتِّفاق كلمتهم، أو: لأنَّه مصدرٌ في الأصل كصيامٍ وقيامٍ.
          (قَالَ) لم يُعلم القائل، لكن ذُكِر في «التَّفسير»(1) : ((قال مجاهد: أي: اجعلنا أئمَّةً لهم في الحلال والحرام يقتدون بنا فيه))، أخرجه الفريابيُّ والطَّبري بسندٍ صحيحٍ. وفي روايةٍ عن مجاهد: ((أي: اجعلنا ممَّن يقتدي بمن قبلنا حتَّى يقتدي بنا من بعدنا)).
          (أَئمَّةً) يعني: استعمل «الإمام» هنا بمعنى الجمع بدليل: {جْعَلْنَا} (نَقْتَدِي بِمَنْ قَبْلَنَا، وَيَقْتَدِي بِنَا مَنْ بَعْدَنَا) وأخرج ابن أبي حاتمٍ من طريق مجاهد بسندٍ صحيحٍ: ((قال: يقول: اجعلنا أئمَّةً في التَّقوى حتَّى نأتمَّ بمن كان قبلنا، ويأتمَّ بنا من بعدنا)). وأخرج ابن أبي حاتمٍ أيضاً، والطَّبري من طريق عليِّ بن أبي طلحة، / عن ابن عبَّاسٍ ☻ : أنَّ المعنى: اجعلنا أئمَّة التَّقوى لأجله يقتدون بنا، لفظ الطَّبري.
          وفي رواية ابن أبي حاتمٍ: اجعلنا أئمَّة هدىً؛ ليُهتَدى بنا، ولا تجعلنا أئمَّة ضلالة، لأنَّه قال تعالى لأهل السَّعادة: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الأنبياء:73]، وقال لأهل الشَّقاوة: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص:41].
          وقال الكرمانيُّ: الإمام: هو المقتدَى [به]، فمن أين استفاد المأموميَّة حتَّى ذكر المقدِّمة الأولى أيضاً. وأجاب: بأنَّها لازمة؛ إذ لا يكون متبوعاً إلَّا إذا كان تابعاً لهم؛ أي: ما لم يتَّبع الأنبياء، لا تتَّبعه الأولياء، ولهذا لم يذكر الواو بين المقدِّمتين.
          وأخرج ابن أبي حاتمٍ من طريق السدِّي: ليس المراد أن نؤمَّ النَّاس، وإنَّما أرادوا: اجعلنا أئمَّة لهم في الحلال والحرام، يقتدُون بنا فيه. ومن طريق جعفر بن محمد معناه: اجعلني رضاً، فإذا قلتُ صدَّقوني وقبلوا منِّي، وفي الآية: ما يدلُّ على أنَّ الرِّئاسة تُطلب ويرغب فيها.
          (وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ) بفتح العين المهملة وبعد الواو الساكنة نون، هو: عبدُ الله بن عون البصريُّ من صغار التَّابعين (ثَلاَثٌ أُحِبُّهُنَّ لِنَفْسِي وَلإِخْوَانِي) المؤمنين، وفي رواية حمَّاد: ((ولأصحابي)) (هَذِهِ السُّنَّةُ) أي: الطَّريقة النَّبوية المحمَّديَّة، والإشارة في قوله: ((هذه)) نوعيَّة لا شخصيَّة (أَنْ يَتَعَلَّمُوهَا وَيَسْأَلُوا عَنْهَا) علماءها (وَالْقُرْآنُ أَنْ يَتَفَهَّمُوهُ) أي: يتدبَّروه، وفي رواية يحيى: ((فيتدبَّروه)).
          وقال الكرمانيُّ: قال في القرآن: ((يتفهَّموه))، وفي السُّنة: ((يتعلَّموها))؛ لأنَّ الغالب على حال المسلم أن يتعلَّم القرآن في أوَّل أمره، فلا يحتاج إلى الوصيَّة بتعلُّمه، فلذا أوصى بفهم معناه، وإدراك منطوقه وفحواه.
          وقال الحافظ العسقلانيُّ: ويحتمل أن يكون السَّبب: أنَّ القرآن قد جُمع بين دفَّتي المصحف، ولم تكن السُّنة يومئذٍ جُمعت، فأراد بتعلُّمها جمعها؛ ليتمكَّن من تفهُّمها، بخلاف القرآن فإنَّه مجموعٌ.
          (وَيَسْأَلُوا) أي: النَّاس (عَنْهُ، وَيَدَعُوا النَّاسَ) بفتح الدال؛ أي: ويتركُوهم (إِلاَّ مِنْ خَيْرٍ) وفي رواية أبي ذرٍّ عن الكُشميهني: <ويدْعو> بسكون الدال، من الدُّعاء، وفي روايةٍ: <ويدعو النَّاس إلى خيرٍ>. قال الكرماني: أي: لا يتعرَّض لهم، رحم الله امرأً شغله خُويصة نفسه عن الغيرِ.
          نعم، إن قَدِرَ على إيصال خيرٍ فبها ونعمت، وإلَّا ترك الشَّر أيضاً خيرٌ كثيرٌ. انتهى.
          وفي رواية يحيى بن يحيى: ((ورجلٌ أقبلَ على نفسه، ولهى عن النَّاس إلَّا من خيرٍ))؛ لأنَّ في ترك الشَّرِّ خيراً كثيراً.
          وصل هذا التَّعليق: محمد بن نصرٍ المروزي في كتاب «السُّنة»، والجوزقيُّ من طريقه قال محمد بن نصرٍ: حدثنا يحيى بن يحيى: حدثنا سَليم بن أَخضر: سمعت ابن عونٍ يقول غير مرَّةٍ، ولا مرَّتين، ولا ثلاث مرَّاتٍ: ((أحبُّهنَّ لنفسي... إلى آخره)).
          وقد قال أبو الفتح البستيُّ:
إِنَّا لَفِي زَمَنٍ تَرْكُ الْقَبِيحِ بِهِ                     مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ إِحْسَانٌ وَإِجْمَالُ


[1] في إرشاد الساري هو في تفسير الفريابي والطبري.