نجاح القاري لصحيح البخاري

باب ما يكره من التعمق والتنازع في العلم والغلو في الدين والبدع

          ░5▒ (باب: مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّعَمُّقِ) بفتح العين المهملة وضم الميم المشددة بعدها قاف، ومعناه: التَّشديد في الأمر حتَّى يتجاوز الحدَّ فيه (وَالتَّنَازُعِ) أي: المنازعة، وهي في الأصل المحاربة، ويعبَّر بها عن المجادلة (في العِلْمِ) يعني: عند الاختلاف فيه إذا لم يتَّضح الدَّليل، والمذموم منه: اللَّجاج بعد قيام الدَّليل، وسقط في رواية أبي ذرٍّ: «في العلم».
          (وَالْغُلُوِّ) بضم الغين المعجمة واللام وتشديد الواو، وهو المبالغة في الشَّيء والتَّشديد فيه، يتجاوز الحدَّ، وفيه معنى التَّعمُّق، يقال: غلا في الشَّيء يغلُو غلوًّا، وغلا السِّعر يغلو غلاءً: إذا جاوز الحدَّ والعادة، والسَّهم يغلو غَلْواً _بفتح ثم سكون_ إذا بلغ غاية ما يُرمَى.
          (فِي الدِّينِ) وورد النَّهي عنه صريحاً فيما أخرجه النَّسائي، وابن ماجه، وصحَّحه ابن خزيمة، وابن حبَّان، والحاكم من طريق أبي العالية، عن ابن عبَّاسٍ ☻ قال: قال لي رسول الله صلعم ... فذكر حديثاً، وفيه: ((وإيَّاكم والغلوَّ في الدِّين، فإنَّما أهلك من قبلكم الغلوُّ في الدِّين)). وهو مثل البحث في الرُّبوبية حتَّى يحصل نزغةً من نزغات الشَّيطان، فيؤدِّي إلى الخروج عن الحقِّ، وكذا الغلوُّ في الفكرة / إلى أن آلَ بهم الأمر أن جعلوا الآلهة ثلاثةً، تعالى الله عن ذلك.
          (وَ) الغلوُّ في (الْبِدَعِ) وهي جمع بدعةٍ، وهي كلُّ شيءٍ ليس له مثالٌ تقدَّم، فيشمل لغةً ما يُحمد وما يُذمُّ، ويختصُّ في عرف أهل الشَّرع بما يُذمُّ، وإن وردت في المحمود، فعلى معناها اللُّغوي، وقيل: هي ما لم يكن له أصلٌ في الكتاب والسُّنة، وقيل: إظهار شيءٍ لم يكن في عهد رسول الله صلعم ، ولا في زمن الصَّحابة ♥ .
          (لِقَوْلِهِ) وفي رواية أبي ذرٍّ: <لقول الله> (تَعَالَى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء:171]) أي: لا تتجاوزا الحدَّ.
          واحتجَّ بهذه الآية على تحريم الغلوِّ في الدِّين، و((أهل الكتاب)) اليهود والنَّصارى، فإنَّ اليهود غَلَتْ في حطِّ المسيح عيسى ابن مريم ╨ عن منزلته، حتَّى قالوا: إنَّه ابن الزِّنى، والنَّصارى غَلَتْ في رفعه عن مقدارهِ حيث جعلوهُ ابنَ الله. وإذا قلنا: إنَّ أهل الكتاب للتَّعميم؛ ليتناول غير اليهود والنَّصارى يُحمل على أن تناولَه من عدا اليهود والنَّصارى بالإلحاق.
          ({وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ} [النساء:171]) وهو تنزيهه عن الشَّريك والولد.