نجاح القاري لصحيح البخاري

باب من رأى ترك النكير من النبي حجة لا من غير الرسول

          ░23▒ (باب مَنْ رَأَى تَرْكَ النَّكِيرِ) بفتح النون وكسر الكاف، مبالغةً في الإنكار (مِنَ النَّبِيِّ صلعم ) لِمَا يُفعل بحضرته، أو يقال، أو يطَّلع عليه (حُجَّةً) إذ هو نوعٌ من فعله، ولأنَّه لو كان منكراً للزمه التَّغيير، ولا خلاف بين العلماء في ذلك؛ / لأنَّه صلعم لا يجوز أن يرى أحداً من أمَّته يقول قولاً أو يفعل فعلاً محظوراً فيقرُّه عليه؛ لأنَّ الله تعالى فرض عليه النَّهي عن المنكر. وقيل: لأنَّه لا يقرُّ أحداً على باطلٍ سواء كان المسكوت عنه ممَّن يغريهِ الإنكار أو لا، كافراً أو منافقاً.
          والقول باستثناء من يزيده الإنكار إغراءً حكاه ابن السَّمعاني عن المعتزلة بناءً على أنَّه لا يجب عليه إنكاره للإغراء. قال: والأظهر أنَّه يجب إنكاره؛ ليزول توهُّم الإباحة.
          والقول باستثناء ما إذا كان الفاعل كافراً أو منافقاً قولُ إمام الحرمين، بناءً على أنَّ الكافر غير مكلَّف بالفروع، ولأنَّ المنافق كافرٌ في الباطن، والقول بالاقتصار على الكافر ذهب إليه الماوردي وهو أظهرُ؛ لأنَّه أهلٌ للانقياد في الجملة، وكما يدلُّ للجواز للفاعل فكذا لغيره؛ لأن حكمه على الواحد حكم على الجماعة، وذهب القاضي أبو بكر الباقلاني: إلى اختصاصه بمن قُرِّر ولا يتعدى إلى غيره، فإن التقرير لا صيغة له تعم، والصحيح أنَّه يعمُّ سائر المكلفين؛ لأنه في حكم الخطاب، وخطاب الواحد خطابٌ للجميع.
          (لاَ مِنْ غَيْرِ الرَّسُولِ) صلعم لعدم عصمتِهِ، فسكوته لا يدلُّ على الجواز؛ لأنَّه قد لا يتبيَّن له حينئذٍ وجه الصَّواب؛ يعني أن تركَ الإنكار من غير الرَّسول صلعم لا يكون حجَّةً. قال في «المصابيح»: وفيه نظرٌ فإنَّه إذا أفتى واحدٌ في مسألةٍ تكليفيَّةٍ وعَرَفَ به أهل الإجماع وسكتوا عليه ولم ينكره أحدٌ، ومضى قدر مهلة النَّظر في تلك الحادثة عادةً، وكان ذلك القول المسكوت واقعاً في محلِّ الاجتهاد، فالصَّحيح أنَّه حجَّةٌ، وهل هو إجماعٌ أو لا؟ فيه خلافٌ. قالوا: والخلاف لفظيٌّ.
          وعلى الجملة قد يكون في بعض الصُّور أن تركَ النَّكير من غير النَّبي صلعم حجَّة، وهو أن يقولَ المجتهد قولاً وانتشر ولم يخالفه غيره بعد الاطِّلاع عليه من أهل الحلِّ والعقد فسكتوا، فهو إجماعٌ سكوتي والله أعلم.