نجاح القاري لصحيح البخاري

باب ما كان النبي يسأل مما لم ينزل عليه الوحي

          ░8▒ (باب: مَا كَانَ النَّبِيُّ صلعم يُسْأَلُ) بضم أوله على البناء للمفعول (مِمَّا لَمْ يُنْزَلْ) على البناء للمفعول أيضاً (عَلَيْهِ الْوَحْيُ) قرآناً أو غيره (فَيَقُولُ: لاَ أَدْرِي) قال الكرمانيُّ: فيه حَزَازةٌ إذ ليس في الحديث / ما يدلُّ عليه، ولم يثبت عنه صلعم ذلك.
          وقال الحافظ العسقلانيُّ: وهو تساهلٌ شديدٌ منه في الإقدام على نفي الثُّبوت، والَّذي يظهر: أنَّه أشار في التَّرجمة إلى ما ورد في ذلك، لكنَّه لم يثبت عنده منه شيءٌ على شرطه، وإن كان يصلح للحجَّة كعادته في أمثال ذلك.
          وأقرب ما ورد عنده في ذلك حديث ابن مسعودٍ ☺ الماضي في «تفسير سورة ص» [خ¦4809]: مَن علم شيئاً فليقلْ به، ومن لم يعلمْ فليقل: الله أعلم. لكنَّه موقوفٌ.
          والمراد هنا: إنَّما هو ما جاء عن النَّبيِّ صلعم أنَّه أجاب بلا أعلم، أو لا أدري، وقد وردت فيه عدَّة أحاديث:
          منها: حديث ابن عمرَ ☻ : جاء رجلٌ إلى النَّبيِّ صلعم فقال: أيُّ البقاع خيرٌ؟ قال: ((لا أدري، فأتاه جبريلُ فسأله فقال: لا أدري، فقال: سَل ربَّك، فانتفضَ جبريل انتفاضةً)) أخرجه ابن حبَّان. وللحاكم نحوه من حديث جُبير بن مطعم.
          ومنها: حديث أبي هريرة ☺: أنَّ رسول الله صلعم قال: ((ما أدري الحدود كفَّارةٌ لأهلها أم لا))، وهو عند الدَّارقطنيِّ والحاكم. انتهى.
          وتعقَّبه العيني: بأنَّ نسبة الكرمانيِّ إلى التَّساهل الشَّديد تساهل أشدُّ منه؛ لأنَّ قوله: ليس في الحديث ما يدل عليه، صحيحٌ. وقوله: ولم يثبت عنه ذلك، أيضاً صحيحٌ؛ لأنَّ مراده: أنَّه لم يثبت عنده، فإذا كان كذلك فقول البخاريِّ: لا أدري، غير واقع في محلِّه، فليتأمَّل.
          (أَوْ لَمْ يُجِبْ) عن ذلك (حَتَّى يُنْزَلَ) بضم أوله وفتح ثالثه (عَلَيْهِ الْوَحْيُ) بالرَّفع، ببيان ذلك، فيجب حينئذٍ، وفي رواية أبي ذرٍّ عن المستملي: <حتَّى يُنزلَ الله عليه الوحيَ> بالنصب على المفعوليَّة.
          والحاصل: أنَّه صلعم كان له إذا سُئل عن الشَّيء الَّذي لم يوحَ إليه فيه حالان، إمَّا أن يقول: «لا أدري»، وإمَّا أن يسكت حتَّى يأتيه بيان ذلك بالوحي، ولم يذكر لقوله: لا أدري دليلاً، فإن كلًّا من الحديثين المعلَّق والموصول من أمثلة الشقِّ الثَّاني.
          وأجاب بعض الشَّارحين: بأنَّه استغنى بعدم جوابه به.
          (وَلَمْ يَقُلْ بِرَأْيٍ وَلاَ بِقِيَاسٍ) قال الكرماني: قيل: لا فرق بينهما وهما مُترادفان. وقيل: الرَّأي: هو التَّفكُّر، والقياس: الإلحاق؛ أي: لم يقل بمقتضى العقلِ ولا بالقياس. وقيل: الرَّأي أعمُّ؛ ليتناول مثل الاستحسان.
          قال الحافظ العسقلانيُّ: والَّذي يظهرُ: أنَّ مراد البخاريِّ هو الأخير، وهو ما دلَّ عليه اللَّفظ الَّذي أورده في إثبات الَّذي قبله من حديث عبد الله بن عَمرو، فإنَّه يدلُّ على أنَّ الجهَّال يفتون بأمرهم، وذلك بعد فقد العلماء المجتهدين. وقال الأوزاعيُّ: العلم ما جاء / عن أصحابِ رسولِ الله صلعم ، وما لم يجيءَ عنهم فليس بعلمٍ.
          وأخرج أبو عبيد، ويعقوب بن شيبة: عن ابن مسعودٍ ☺ قال: لا يزالُ النَّاس مستحلِّين بخيرٍ ما أتاهم العلم من أصحاب محمد صلعم وأكابرهم، فإذا أتاهم العلمُ من قِبَل أصاغرهم، وتفرَّقت أهواؤهم هلكوا.
          وقال أبو عبيدٍ: معناه: أنَّ كلَّ ما جاء عن الصَّحابة وكبار التَّابعين لهم بإحسانٍ هو العلم الموروث، وما أحدثه مَنْ جاء بعدهم هو المذموم، وكان السَّلف يفرِّقون بين العلم والرَّأي، فيقولون للسُّنَّة: علمٌ، ولِمَا عداها: رأيٌ. وعن أحمد: يُؤخذ العلم عن النَّبيِّ صلعم ثمَّ عن أصحابه، فإن لم يكن فهو في التَّابعين مخيَّرٌ. وعنه: ما جاء عن الخلفاء الرَّاشدين هو من السُّنة، وما جاء عن غيرهم من الصَّحابة ممَّن قال: إنَّه سنَّة لم أدفعه. وعن ابن المبارك: ليكن المعتمد عليهِ الأثر، وخذوا من الرَّأي ما يُفشِّوُ لكم الخبر.
          والحاصل: أنَّ الرَّأي إن كان مستنداً للنَّقل من الكتاب أو السُّنة فهو محمودٌ، وإن تجرَّد عن ذلك فهو مذمومٌ، وعليه يدورُ حديث عبد الله بن عمرٍو ☻ من أنَّ الجهَّال يفتون برأيهم، والله تعالى أعلم.
          (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ}) ويُروى: <لقول الله تعالى>، وهو رواية المستملي، احتجَّ البخاري بقوله تعالى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء:105] ؛ أي: بما أعلمك الله تعالى على أنَّه لم يقل برأيٍ ولا بقياسٍ.
          وقال المهلب ما حاصله: الرَّدُّ على البخاريِّ في قوله: «ولم يقل برأيٍ ولا قياسٍ»؛ لأنَّ النَّبيَّ صلعم قد علَّم أمَّته كيفيَّة القياس، والاستنباط في مسائل لها أصولٌ ومعانٍ في كتاب الله ╡؛ ليريهم كيف يصنعون فيما عَدموا فيه النُّصوص، والقياس: هو تشبيه ما لا حكم فيه بما فيه حكمٌ في المعنى.
          وقد شبَّه صلعم الحُمر بالخيل حين سُئل عن الحُمر، فقال: ((ما أنزلَ الله عليَّ فيها شيءٌ غير هذه الآية الفاذَّة الجامعة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7-8])).
          وقال للَّتي سألته أنَّ أمَّها لم تحجَّ: ((أرأيت لو كان على أمِّك دينٌ أكنت قاضيته؟ فالله أحقُّ بالقضاء)) (1) وهذا هو عينُ القياس عند العربِ وعند العلماء بمعاني الكلام.
          وأمَّا سكوته صلعم حين ينزلَ الوحي، فإنَّما هو في أشياءَ معضلة ليست لها أصول في الشَّريعة، فلا بدَّ فيها من اطِّلاع الوحي، ونحن الآن قد فرغت لنا الشَّرائع وأكمل الله الدِّين، فإنَّما ننظر ونقيسُ على موضوعاتها فيما أعضل من النَّوازل.
          ونقل ابن التِّين عن الدَّاودي / ما حاصله: إنَّ الَّذي احتجَّ به البخاريُّ لِمَا ادَّعاه من النَّفي حجَّة في الإثبات؛ لأنَّ المراد بقوله: {بما أراك الله} ليس محصوراً في المنصوص، بل فيه إذنٌ في القول بالرَّأي، فحينئذٍ تنقلبُ الحجَّة عليه. ثمَّ ذكر قصَّة الَّذي قال: إنَّ امرأتي ولدت أسودَ: ((هل لك من إبلٍ _إلى أن قال_: فلعلَّه نزعة عرقٍ)) [خ¦5305].
          وقال لمَّا رأى شبهاً بزمعة: ((احتجبي منه يا سودة)) [خ¦2218]، ثمَّ ذكر آثاراً تدلُّ على الإذن في القياس.
          وتعقَّبه ابن التِّين: بأنَّ البخاريَّ لم يُرِد النَّفي المطلق، وإنَّما أراد أنَّه صلعم ترك الكلام في أشياءَ، وأجاب بالرَّأي في أشياء، وقد بوَّب لكلِّ ذلك بما ورد فيه، وأشار إلى قوله بعد بابين: «باب من شبَّه أصلاً معلوماً بأصلٍ مبينٍ» [خ¦96/12-10827]، وذكر فيه حديث: ((لعلَّه نزعة عرقٍ)) [خ¦7314] وحديث: ((فدَين الله أحقُّ أن يقضى)) [خ¦7315]، وبهذا يندفعُ ما فهمه المهلب والدَّاودي. ثمَّ إنَّه نقل ابن بطَّالٍ الخلاف هل يجوز للنَّبي أن يجتهدَ فيما لم ينزلْ عليه؟ ونقل أن لا نصَّ لمالكٍ فيه، قال: والأشبه جوازه.
          وقد ذكر الشَّافعيُّ المسألة في «الأم»، وذكر: أنَّ حجَّة من قال: إنَّه لم يَسُنَّ شيئاً إلَّا بأمر، وهو على وجهين: إمَّا بوحيٍ يُتلى على النَّاس، وإمَّا برسالةٍ عن الله: أن افعل، كذا قول الله تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء:113] الآية، فالكتاب ما يُتلى، والحكمة: السُّنَّة، وهو ما جاء به عن الله بغير تلاوةٍ. ويؤيِّد ذلك قوله في قصَّة العسيف: ((لأقضينَّ بينكما بكتاب الله)) [خ¦2695] أي: بوحيه.
          ومثله حديث يَعلى بن أميَّة في قصَّة الَّذي سأل عن العمرة، وهو لابسٌ الجبَّة، فسكت حتَّى جاءه الوحي، فلمَّا سُرِّي عنه أجابه.
          وأخرج الشَّافعيُّ من طريق طاوس: أنَّ عنده كتاباً في العُقول نزل به الوحي.
          وأخرج البيهقيُّ بسندٍ صحيحٍ، عن حسَّان بن عطيَّة أحد التَّابعين في ثقات الشَّاميين: كان جبريل ينزل على النَّبيِّ صلعم بالسُّنَّة كما ينزل عليه بالقرآن، ويجمع ذلك كلَّه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3] الآية.
          ثمَّ ذكر الشَّافعي: أنَّ من وجوه الوحي: ما يراه في المنام، وما يلقيه روح القُدسِ في رَوْعِه، ثمَّ قال: ((ولا تعدُّو السُّنن كلَّها واحداً)) من هذه المعاني الَّتي وصفت. انتهى.
          واحتجَّ من ذهب إلى أنَّه كان يجتهد بقول الله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر:2]، والأنبياء أفضل أُولي الأبصار؛ لِمَا ثبتَ من أجرِ المجتهد، ومضاعفتهِ، والأنبياء أحقُّ بما فيه جزيلُ الثَّواب.
          ثمَّ ذكر ابن بطَّال أمثلةً ممَّا عمل فيه صلعم بالرَّأي من أمر الحرب، وتنفيذ الجيوش، وإعطاء المؤلَّفة، وأخذ الفداء من أسارى بدرٍ. واستدلَّ بقوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159]. قال: ولا تكون المشورة إلَّا فيما لا نصَّ فيه. واحتجَّ الدَّاودي بقول عمر: إنَّ الرَّأي كان من رسول الله صلعم مصيباً، / وإنَّما هو منَّا الظَّن والتَّكلف.
          وقال الكرمانيُّ: قال المجوِّزون: كان التَّوقف فيما لم يجد له نصًّا أصلاً يقيسُ عليه، وإلَّا فهو مأمورٌ به؛ لعموم قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر:2]. انتهى وهو ملخَّص ممَّا تقدَّم.
          واحتجَّ ابن عبد البرِّ لعدم القول: بما أخرجه من طريق ابن شهابٍ: أنَّ عمر ☺ خطب فقال: يا أيُّها النَّاس إنَّ الرَّأي إنَّما كان من رسول الله صلعم مصيباً؛ لأنَّ الله ╡ يُرِيه، وإنَّما هو منَّا الظَّن والتَّكلُّف.
          وبهذا يمكن التَّمسك به لمن يقول: كان يجتهد، لكن لا يقع فيما يجتهد فيه خطأٌ، وهذا في حقِّه صلعم ، فأمَّا من بعده: فإنَّ الوقائع كثرت والأقاويل انتشرت، فكان السَّلف يحترزون من المُحْدَثات، ثمَّ انقسموا ثلاث فرقٍ:
          الأولى: تمسَّكت بالأثر، وعملوا بقوله صلعم : ((عليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الرَّاشدين)) فلم يخرجوا في فتاويهم عن ذلك، وإذا سُئلوا عن شيءٍ لا نقل عندهم فيه، أمسكوا عن الجواب وتوقَّفوا.
          والثَّانية: قاسوا ما لم يقع على ما وقع، وتوسَّعوا في ذلك، حتَّى أنكرت عليهم الفرقة الأُولى كما تقدَّم.
          والثَّالثة: توسَّطت فقدَّمت الأثر ما دام موجوداً، فإذا فُقِد قاسوا.
          (وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ) عبد الله ☺: (سُئِلَ النَّبِيُّ صلعم عَنِ الرُّوحِ فَسَكَتَ، حَتَّى نَزَلَتِ الآيَةُ) {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} [الإسراء:85].
          وقوله: <الآية> ثبت في رواية أبي ذرٍّ عن الكُشميهني، ذكر هذا التَّعليق دليلاً لقوله في التَّرجمة و«لم يُجِب»؛ لأنَّ عدم الإجابة السكوت، ولا ينتهض هذا دليلاً لما ادَّعاه؛ لِمَا ذُكِر أنَّ سكوته في مثل هذا الموضع؛ لكونه في أشياء معضلةٍ، وليس لها أصول في الشَّريعة، فلا بدَّ في مثل هذا من الوحي، ومع هذا ما أطلعه الله في هذه الآية على حقيقة كيفية الرُّوح، بل قال: {قُلِ الرُّوحُ مِن أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85].
          هذا وقد مضى هذا التَّعليق موصولاً في آخر «باب: ما يكره من كثرة السُّؤال»، لكنَّه ذكره فيه: ((فقام ساعةً ينظر)) [خ¦7297]، وأورده في «كتاب العلم» [خ¦125] بلفظ: ((فسكَت))، وأورده في تفسير {سُبْحَانَ} [الإسراء:1] بلفظ ((فأمسَك)) [خ¦4721]: وفي رواية مسلمٍ: فأُسْكِتَ النَّبيُّ صلعم ، فلم يَرُدَّ عليه شيئاً.


[1] كذا في الفتح، وفي العمدة سألته عن أبيها... لو كان على أبيك.