نجاح القاري لصحيح البخاري

باب ما يذكر من ذم الرأي وتكلف القياس

          ░7▒ (باب: مَا يُذْكَرُ مِنْ ذَمِّ الرَّأْيِ) أي: الَّذي يكون على غير أصلٍ من الكتاب أو السُّنة، أو الإجماع، وأمَّا الرَّأي الَّذي يكون على أصلٍ من هذه الثَّلاثة؛ فهو محمودٌ وهو الاجتهاد.
          والحاصل: أنَّ الفتوى بما يؤدِّي إليه النَّظرَ يَصْدُق على ما يوافق النَّص من كتابٍ أو سنَّةٍ أو إجماعٍ، وعلى ما يخالفه، والثَّاني هو المذموم دون الأوَّل.
          (وَتَكَلُّفِ الْقِيَاسِ) الَّذي لا يكون على هذه الأصول، وأمَّا القياس الَّذي يكون على هذه الأصول، فغير مذمومٍ، وهو الأصل الرَّابع المستنبط من هذه، الأصول، والقياسُ هو الاعتبار، والاعتبار مأمورٌ به، فالقياس مأمورٌ به، وذلك لقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر:2]، فالقياس إذا كان مأموراً به، فكان حجَّةً.
          فإن قلت: روى البيهقيُّ من طريق مجاهد، عن الشَّعبي، عن عَمرٍو بن حريث، عن عمر ☺ قال: إيَّاكم وأصحاب الرَّأي، فإنَّهم أعداء السُّنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، فقالوا بالرَّأي، فضلُّوا وأضلُّوا، أُجيب: بأنَّ في صحَّته نظرٌ، أو لئن سلَّمنا؛ فإنَّه أراد به الرَّأي مع وجود النَّص.
          وقال الحافظ العسقلانيُّ: إذا لم يجد من الأمور الثَّلاثة شيئاً، واحتاج إلى القياس / فلا يتكلَّفه، بل يستعملُه على أوضاعه، ولا يتعسَّف في إثبات العلَّة الجامعة الَّتي هي من أركان القياس، بل إذا لم تكن العلَّة الجامعة واضحةٌ، فليتمسَّك بالبراءة الأصليَّة، ويدخل في تكلُّف القياس ما إذا استعمله على أوضاعه مع وجود النَّص، وما إذا وجد النَّص فخالفه وتأوَّل لمخالفته شيئاً بعيداً، ويشتدُّ الذَّم فيه لمن يُنتصر لمن يُقلِّده مع احتمال أن لا يكون الأوَّل اطَّلع على النَّص.
          ({وَلاَ تَقْفُ}) بفتح الفوقية وسكون القاف؛ أي: (لاَ تَقُلْ {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}) احتجَّ به المؤلِّف لِمَا ذكره من ذمِّ التَّكلف، وسقط قوله: «لا تقل» في رواية أبي ذرٍّ، وتفسير القفو بالقول، من كلام ابن عبَّاسٍ ☻ فيما أخرجه الطَّبري، وابن أبي حاتمٍ من طريق علي بن أبي طلحة، عنه.
          وكذا قال عبد الرَّزَّاق، عن معمَّر، عن قتادة: {لَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36] لا تقل: رأيت ولم ترَ، ولا سمعتُ ولم تسمع، وعلمتُ ولم تعلم، فإنَّ الله سائلك عن ذلك كلِّه، والمعروف: أنَّه الاتِّباع.
          وقد تقدَّم في حديث موسى والخضر: ((فانطلق يقفو أثره)) أي: يتبعهُ، وفي حديث الصَّيد: ((يقتفي أثره)) أي: يتبع. وقال أبو عبيدة: معناه: لا تتبع ما لا تعلم وما لا يعنيك. وقال الرَّاغب: الاقتفاء: اتِّباع القفا، كما أنَّ الارتداف اتِّباع الرَّدف، ويُكْنَى بذلك عن الاغتياب، وتتبُّع المعايب، ومعنى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36]: لا تحكم بالقيافة والظَّن، والقيافة مقلوبٌ عن الاقتفاء نحو جذب وجبذَ. وسبق إلى هذا الأخير الفرَّاء، وهو حجَّةٌ على مَنْ يحكم بالقائف.
          وقال الطَّبريُّ بعد أن نقل عن السَّلف أنَّ المراد شهادة الزُّور: وهو المرويُّ عن محمد ابن الحنفيَّة، أو القول بغير علمٍ، أو الرَّمي بالباطل هذه المعاني متقاربةٌ. ثمَّ ذكر قول أبي عبيدة، ثمَّ قال: أصل القفو: العيب، ثمَّ نقل عن بعض الكوفيِّين: أنَّ أصله القيافة، وهي اتِّباع الأثر.
          وتُعقِّب: بأنَّه لو كان كذلك؛ لكانت القراءة بضم القاف وسكون الفاء، لكن زعم أنَّه على القلب، قال: والأولى بالصَّواب الأوَّل. انتهى.
          والقراءة الَّتي أشار إليها نُقلت في الشَّواذِّ عن معاذٍ القارئ، واستدلَّ الشَّافعي للرَّدِّ على من يقدِّم القياس على الخبر بقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59]. قال: معناه _والله أعلم_: اتَّبعوا في ذلك ما قال الله ورسوله.
          وأورد البيهقيُّ هنا حديث ابن مسعودٍ ☺: ليس عامٌ إلَّا الَّذي بعده شرٌّ منه، لا أقول عام أخصبُ من عامٍ، ولا أمير خيرٌ من أميرٍ، ولكن ذهاب العلماء، ثمَّ يُحدِثُ قوم / يقيسون في الأمور بآرائهم، فيُهدَم الإسلام.
          هذا ولا يصحُّ التَّشبث به لمُبْطِل الاجتهاد؛ لأنَّ ذا نوعٌ من العلم، قال تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة:10] أقام الشَّارعُ غالبَ الظَّن مقام العلم، وأمر بالعمل به، كما في الشَّهادات.