شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: لله مئة اسم غير واحد

          ░68▒ بابٌ لِلَّهِ مِائَةُ اسْمٍ غَيْرَ وَاحِدٍ.
          فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ رِوَايَةً، قَالَ: (إنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعينَ اسْمًا مِائَةٌ إِلَّا وَاحِدًا، لَا يَحْفَظُهَا أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَهُوَ وَتْرٌ يُحِبُّ الْوَتْرَ). [خ¦6410]
          قال(1) المهلَّب: اختلف النَّاس في الاستدلال مِن هذا الحديث، فذهب قوم إلى أنَّ ظاهرَه يقتضي أن لا اسم لله تعالى غير التِّسعة والتِّسعين اسمًا الَّتي نصَّ عليها النَّبيُّ صلعم إذ لو كان له غيرها لم يكن لتخصيص هذه العدَّة معنى، قالوا: والشَّريعة متناهية والحكمة فيها بالغة، وذهب آخرون إلى أنَّه يجوز أن تكون له أسماء زائدة على التِّسعة وتسعين(2)، إذ لا يجوز أن تتناهى / أسماء الله ╡ لأنَّ مدائحَه وفواضلَه غير متناهية كما قال ╡ في كلماتِه وحِكَمِه: {وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ}[لقمان:27].
          ومعنى ما أخبرنا به النَّبيُّ صلعم مِن التِّسعة وتسعين اسمًا إنَّما(3) هو معنى الشَّرع لنا في الدُّعاء بها، وغيرِها مِن الأسماء لم يشرع لنا الدُّعاء بها لأنَّ حديث النَّبيِّ صلعم مبنيٌّ على قولِه تعالى: {وَلِلّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}[الأعراف:180]، فكان ذكر هذا العدد إنَّما هو لشرع الدُّعاء به(4)، وهذا القول أميلُ إلى النُّفوس لإجماع الأُمَّة على أنَّ الله تعالى لا يبلغ كنهَه الواصفون ولا ينتهي إلى صفاتِه المُقَرِّظون دليل لازم أنَّ له أسماء غير هذه وصفات، وإلا فقد تناهت صفاتُه تعالى عن ذلك(5)، وهذا قول أبي الحسن الأشعري وابن الطيِّب وجماعة مِن أهل العلم.
          قال ابن الطيِّب: وليس في الحديث دليل على أن ليس لله تعالى أكثر مِن تسعة وتسعين اسمًا، لكن ظاهر الحديث يقتضي مَن أحصى تلك التِّسعة وتسعين(6) اسمًا على وجه التَّعظيم لله تعالى دخل الجنَّة، وإن كان له أسماء أُخر. وقال أبو الحسن بن القابسي ☼: أسماء الله وصفاتُه لا تُعلَم إلَّا بالتَّوقيف، والتَّوقيف كتاب الله تعالى وسنَّة رسولِه(7) صلعم أو اتِّفاق أُمَّتِه، وليس للقياس في ذلك مدخل، وما أجمعت عليه الأمة، فإنَّما هو عن سمع عُلِّمُوه مِن بيان الرَّسول صلعم.
          قال: ولم يُذكر في كتاب الله ╡ لأسمائِه سبحانَه عدد مسمَّى، وقد جاء حديث أبي هريرة عن النَّبي صلعم ((إِنَّ للهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا)) وقد أخرج بعض النَّاس مِن كتاب الله تعالى تسعةً وتسعين اسمًا(8)، والله أعلم بما خرَّج مِن هذا العدد إن كان كلُّ ذلك أسماء، أو بعضُها أسماء وبعضُها صفات، ولا يُسلَّم له ما نقلَه مِن ذلك.
          وقال الدَّاودي: لم يثبت عن النَّبيِّ صلعم أنَّه نصَّ على التِّسعة والتِّسعين اسمًا. قال ابن القابسي: وقد روى مالك عن سُمَيِّ عن القعقاع بن حكيم أنَّ كعب الأحبار أخبرَه قال: لولا كلمات أقولهنَّ لجعلتني يهودُ حمارًا. فقيل له: ما هنَّ؟ فقال: أعوذ بوجه الله العظيم الَّذي ليس شيء أعظم منه، وبكلمات الله التَّامَّات الَّتي لا يجاوزهنَّ برٌّ ولا فاجر، وبأسماء الله الحسنى كلِّها(9) ما علمت منها وما لم أعلم مِن شرِّ ما خلق وذرأ وبرأ.
          فهذا كعب على علمِه واتِّساعِه لم يتعاطَ أن يحصر معرفة الأسماء في مثل ما حصرَها هذا الَّذي زعم أنَّه عرفَها مِن القرآن، والدُّعاء في هذا بدعاء كعب أولى وأسلم مِن التَّكَلُّف.
          وسمعت الشيخ(10) أبا إسحاق الشَّيباني يدعو بذلك كثيرًا، وسيأتي تفسير الإحصاء، والمراد بهذا الحديث في كتاب الاعتصام في باب قول النَّبيِّ صلعم باسم الله الأعظم، فمِنها ما رواه وكيع عن مالك بن مِغْول عن عبد الله بن بُرَيدة عن أبيه: أنَّ رسول الله صلعم سمع رجلًا يقول: اللَّهُمَّ إنِّي أسألك بأنِّي أشهد أنَّك لا إله إلا أنت الأحد الصَّمد الَّذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد. فقال: ((لَقَدْ دَعَا بِاسْمِ اللهِ الأَعْظَمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ(11) بِهَ أَجَابَ، وِإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى)).
          ومنها حديث شهر بن حَوْشَب عن أسماء بنت يزيد عن النَّبيِّ صلعم قال: ((اسْمُ اللهِ الأعظم في هاتين الآيتين: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}[البقرة:163])). ومنها ما رواه علي بن زيد بن جُدعان عن سعيد بن المسيَّب قال: سمعت سعد بن مالك يقول: سمعت النَّبيَّ صلعم يقول: ((اسْمُ اللهِ الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى وَإِذَا دُعُيِ بِهَ أَجَابَ دَعْوَةُ يُونُسَ بنِ مَتَّى، أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَهُ: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَّاإِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ}[الأنبياء:87-88]، فَهُوَ شَرْطُ اللهِ لِمَنْ دَعَا بِهَا)).
          قال الطَّبري: قد اختلف السَّلف قبلنا في ذلك، فقال بعضُهم في ذلك ما قال قَتادة: اسم الله الأعظم: اللَّهُمَّ إني أعوذ بأسمائك الحسنى كلِّها ما علمت منها وما لم أعلم، وأعوذ بأسمائك الَّتي إذا دُعيت بها أجبت، وإذا سُئلت بها أعطيت. وقال آخرون: اسم الله الأعظم: هو الله، ألم تسمع قولَه: {هُوَ اللهُ الَّذي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ. هُوَ اللهُ الَّذي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ المَلِكُ(12)}[الحشر:22-23]إلى آخر السُّورة. وقال آخرون بأقوال مختلفة لروايات رووها عن العلماء. /
          قال الطَّبري: والصَّواب في كلِّ ما روينا في(13) ذلك عن النَّبيِّ صلعم وعن السَّلف أنَّه صحيح. فإن قيل: وكيف يكون ذلك صحيحًا مع اختلاف ألفاظِه ومعانيه؟ فالجواب: أنَّه لم يُرْوَ عن أحد منهم أنَّه قال في شيء مِن ذلك لقد(14) دعا باسمِه الأعظم الَّذي لا اسم له أعظم منه فيكون ذلك مِن روايتِهم اختلافًا، وأسماء الله تعالى ذكرُه عندنا كلُّها(15) عظيمة جليلة، ليس منها صغير وليس منها اسم أعظم مِن اسم. ومعنى قولِه صلعم: لقد دعا باسمِه الأعظم؛ لقد دعا باسمِه العظيم، كما قال جل ثناؤُه: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}[الروم:27]بمعنى وهو هيِّن عليه، وكما قال ابن أوس:
لَعَمْرُكَ مَا أَدْرِيْ وَإِنِّي لَأَوْجَلُ
          بمعنى أنَّه(16) لوجِل، ويبيِّن صحَّة ما قلناه حديث حفص بن أخي أنس بن مالك عن أنس عن النَّبيِّ صلعم أنَّه قال: ((لَقَدْ دَعَا بِاسْمِهِ العَظِيمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ)) فقال(17): باسمِه العظيم، إذ كان معنى ذلك ومعنى الأعظم واحدًا(18).
          وقال أبو الحسن بن القابسي: لا يجوز أن يقال في أسماء الله تعالى وصفاتِه ما يُشبه المخلوقات، ولو كان في أسماء الله تعالى اسمًا أعظم مِن اسم لكان غيرَه ومنفصلًا منه، والاسم هو المسمَّى على قول أهل السُّنَّة فلا يجوز أن يكون الاسمان متغايرين، ومَن جعل اسمًا أعظم مِن اسم صار إلى قول مَن يقول: القرآن مخلوق.
          قال الطَّبري: فإن قيل: فلو كان كما وصفت كلُّ اسم مِن أسماء الله عظيمًا لا شيء منها أعظم مِن شيء لكان كلُّ مَن دعا باسم(19) مِن أسمائِه مجابًا دعاؤُه كما استجيب دعاء صاحب سليمان صلعم الَّذي أتاه بعرش بلقيس مِن مسيرة شهر قبل أن يرتدَّ إلى سليمان طرفُه لأنَّه كان عندَه علم مِن اسم الله الأعظم، وكذلك عيسى صلوات الله عليه، به(20) كان يحيي الموتى ويبرئ الأكمَه والأبرص وقد يدعو أحدُنا الدَّهر الطويل بأسمائِه فلا يُستجاب له، فدل أنَّ الأمر بخلاف ذلك.
          قيل: بل الأمر في ذلك كما قلناه، ولكنَّ أحوال الدَّاعين تختلف، فمِن داعٍ ربَّه تعالى لا تُردُّ دعوتُه، ومِن داعٍ محلُّه محلَّ مَن غضب الله عليه وعرَّضَه للبلاء والفتنة فلا يَردُّ كثيرًا مِن دعائه ليبتليه به ويبتلي به غيرَه، ومَن داعٍ يوافق دعاؤُه محتوم قضائِه ومبرم قدرِه، وقد قال صلعم: ((مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو إِلَّا اسْتُجِيْبَ لَهُ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيْعَةِ رَحِمٍ، إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ في الدُّنيا، وإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَ لَهُ فِي الآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوْءِ بِقَدْرِ مَا دَعَا)) ويبيِّن ما قلناه أنَّا وجدنا أنَّه يدعو بالَّذي دعا به الَّذين عُجلت لهم الإجابة فلا يجاب له، فدلَّ أنَّ الَّذي أوجب الإجابة لمَن أُجيب، وترك الاستجابة لمَن لم يستجب له هو اختلاف أحوال(21) الدَّاعين، لا الدُّعاء باسم مِن أسماء الله تعالى بعينِه.
          وقد وقع في هذا الحديث رواية سفيان عن أبي الزناد: ((مِائَةً إِلَّا وَاحِدَةً)) ولا يجوز في العربيَّة، وقد جاء(22) هذا الحديث في كتاب الاعتصام: ((مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا)) مِن رواية شعيب عن أبي الزِّناد، وهو الصَّحيح في العربية لأنَّ الاسم مذكَّر فلا يُستثنى منه إلا مذكَّر مثلُه.


[1] قوله: ((قال)) زيادة من (ص).
[2] في (ت) و(ص): ((والتسعين)).
[3] في (ت): ((أنها)).
[4] في (ت): ((لشرع ادعائه)).
[5] في (ص): ((على غير ذلك)).
[6] في (ص): ((والتسعين)).
[7] في (ت) و(ص): ((نبيه)).
[8] قوله: ((وقد أخرج بعض النَّاس من كتاب الله تعالى تسعةً وتسعين اسماً)) ليس في (ت).
[9] قوله: ((كلها)) ليس في (ت) و(ص).
[10] قوله: ((الشيخ)) ليس في (ت) و(ص).
[11] في (ت): ((دعا)).
[12] قوله: ((الملك)) ليس في (ت) و(ص).
[13] في (ت): ((فمن)).
[14] في المطبوع: ((قد)).
[15] في (ت): ((تعالى عندنا كلها)) وفي (ص): ((تعالى كلها عندنا)).
[16] في (ت) و(ص): ((إني)).
[17] في (ت): ((وقال)).
[18] في (ت) و(ص): ((واحد)).
[19] في (ت) و(ص): ((بأسماء)).
[20] قوله: ((به)) ليس في (ت) و(ص).
[21] في (ص): ((حال)).
[22] زاد في (ص): ((في)).