شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب قول النبي: «اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت»

          ░60▒ بابُ قَوْلِ النَّبيِّ صلعم: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَأَخَّرْتُ(1)).
          فيه: أَبُو مُوسَى: (أنَّ النَّبيَّ صلعم كَانَ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ: رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي كُلِّهِ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي خَطَايَاي وَعَمْدِي وَجَهْلِي وَهَزْلِي، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ، وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ، وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، وَأَنْتَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). [خ¦6398]
          قال الطَّبري: إن قال قائل: ما وجه دعاء النَّبيِّ صلعم الله ╡ أن يغفر له خطيئتَه وجهلَه وما تقدَّم مِن ذنبِه، وقد أعلمَه الله ╡ أنَّه قد(2) غفر له ذلك كلَّه، فما وجه سؤالِه ربَّه مغفرة ذنوبِه، وهي مغفورة، وهل يجوز إن كان كذلك أن يسأل العبد ربَّه أن يجعلَه مِن بني آدم، وهو منهم، وأن يجعل له يدين ورجلين وقد جعلَهما له؟
          فالجواب: أنَّه صلعم كان يسأل ربَّه في صلاتِه حين اقترب أجلُه، وبعد أن أنزل عليه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ}[النصر:1]ناعيًا إليه نفسَه فقال لَه: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}[النصر:3]. وكان صلعم يقول: ((إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللهَ وَأَتُوبُ إِلَيهِ فِي اليَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً)) فكان هذا مِن فعلِه في آخر عمرِه وبعد فتح مكَّة، وقد قال الله تعالى له: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}[الفتح:2]، باستغفارك منه، فلم يسأل النَّبيُّ صلعم أن يغفر له ذنبًا قد غُفر له، وإنَّما غفر له ذنبًا وعده مغفرتَه له باستغفارِه، ولذلك قال: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}[النصر:3]
          قال غير الطَّبري: وقد اختلف العلماء في الذُّنوب هل تجوز على الأنبياء ‰؟ فذهب الجمهور(3) إلى أنَّه لا تجوز عليهم الكبائر لوجوب عصمتِهم(4)، وتجوز عليهم الصَّغائر.
          وذهبت المعتزلة إلى أنَّه لا تجوز عليهم الصَّغائر كما لا تجوز عليهم الكبائر، وتأوَّلوا قولَه تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}[الفتح:2]، وقالوا(5): إنَّما غفر له تعالى ما يقع منه ◙ مِن سهو وغفلةٍ، واجتهاد في فعل خير لا يوافق به حقيقة ما عند ربِّه، فهذا هو الَّذي غُفر له، وسُمِّي(6) ذنبًا لأنَّ صفتَه صفة الذَّنب المنهيِّ عنه، إلا أنَّ ذلك تعمُّد وهذا بغير قصد. وهذا تأويل بعيد مِن الصَّواب، وذلك أنَّه لو كان السَّهو والغفلة ذنوبًا للأنبياء يجب عليهم الاستغفار منها لكانوا أسوأ حالًا مِن سائر النَّاس غيرِهم لأنَّه قد وردت السُّنَّة المجتمع(7) عليها أنَّه لا يؤاخذ العباد بالخطأ والنِّسيان فلا يحتاجون إلى الاستغفار مِن ذلك، وما لم يوجب عليهم الاستغفار فلا يُسمَّى عند العرب ذنبًا.
          فالنَّبي(8) ◙ المخبر لنا بذلك عن ربِّه ╡ أولى بأن يدخل مع أُمَّتِه في معنى ذلك، ولا يلزمُه حكم السَّهو والخطأ، وإنَّما يقع استغفارُه ◙ كفَّارة للصَّغائر الجائزة عليه، وهي الَّتي سأل الله ╡ غفرانها له بقولِه: (اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَأَخَّرْتُ) وسأذكر هذه المسالة في حديث الشَّفاعة في باب قولِه تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}(9)[ص:75]في كتاب الاعتصام إن شاء الله تعالى؛ لأنَّ الحديث يقتضي ذلك(10).
          وفيها قول آخر محتمل(11) والله أعلم، أن يكون دعاؤُه صلعم ليغفر الله له ذنبَه على وجه ملازمة الخضوع لله ╡، واستصحاب حال العبوديَّة والاعتراف بالتَّقصير شكرًا(12) لما أولاه ربُّه ╡ ممَّا(13) لا سبيل له إلى مكافأتِه بعمل، كما(14) كان يصلِّي صلعم حتَّى تَرِمَ قدماه، فيقال له: قد غفر الله لك ما تقدم مِن ذنبك وما تأخَّر فيقول: ((أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا)). فكان اجتهادُه في الدُّعاء، والاعتراف بالزَّلل(15) والتَّقصير، والإقرار بالافتقار(16) إلى الله ╡ شكرًا لربِّه، كما كان اجتهادُه في الصَّلاة حتَّى تَرِمَ قدماه شكرًا لربِّه، إذ الدُّعاء لله ╡ مِن أعظم العبادة له، وليسُنَّ ذلك لأُمَّتِه صلعم فيستشعروا الخوف والحذر ولا يركنوا إلى الأمن، وإن كثرت أعمالُهم وعبادتُهم لله ╡، وقد رأيت المحاسبي أشار إلى هذا المعنى، فقال: خوف الملائكة والأنبياء لله ╡ هو خوف إعظام لأنَّهم آمنون في أنفسِهم بأمان الله لهم، فخوفُهم تعبُّدٌ لله إجلالًا وإعظامًا.


[1] في المطبوع: ((وما أخرت)).
[2] قوله: ((قد)) ليس في (ت).
[3] في (ت): ((فذهب أكثر العلماء)).
[4] في المطبوع: ((لعصمتهم)).
[5] في (ت): ((فقالوا)).
[6] في المطبوع: ((وسماه)).
[7] في (ت): ((المجمع)).
[8] في (ت): ((والنَّبي)).
[9] قوله: ((في باب قوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ})) ليس في (ت).
[10] قوله: ((إن شاء الله تعالى؛ لأن الحديث يقتضي ذلك)) ليس في (ت).
[11] في (ت): ((يحتمل)).
[12] في (ت): ((وشكراً)).
[13] في (ت): ((ما)).
[14] في المطبوع: ((فكما)).
[15] في (ت): ((بالتذلل))، وفي المطبوع: ((بالذلل)).
[16] في (ت): ((والإعواز والافتقار)).