شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ما يكره من السجع في الدعاء

          ░20▒ بابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ السَّجْعِ فِي الدُّعَاءِ.
          فيه: ابنُ عبَّاسٍ: (أَنَّهُ قَالَ لِعِكْرِمَةَ: حَدِّثِ النَّاسَ كُلَّ جُمُعَةٍ مَرَّةً، فَإِنْ أَبَيْتَ فَمَرَّتَيْنِ، فَإِنْ أَكْثَرْتَ فَثَلاثَ مِرَارٍ، وَلَا تُمِلَّ النَّاسَ هَذَا الْقُرْآنَ، وَلَا أُلْفِيَنَّكَ تَأْتِي الْقَوْمَ وَهُمْ في حَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِهِمْ، فَتَقُصُّ عَلَيْهِمْ، فَتَقْطَعُ عَلَيْهِمْ حَدِيثَهُمْ، فَتُمِلُّهُمْ، وَلَكِنْ أَنْصِتْ، فَإِذَا أَمَرُوكَ، فَحَدِّثْهُمْ، وَهُمْ يَشْتَهُونَهُ، وَانْظُرِ السَّجْعَ مِنَ الدُّعَاءِ، فَاجْتَنِبْهُ، فَإِنِّي عَهِدْتُ النَّبيَّ صلعم وَأَصْحَابَهُ لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ). [خ¦6337]
          قال المؤلِّف: إنَّما نُهي عن السَّجع في الدُّعاء، والله أعلم؛ لأنَّ طلب السَّجع فيه تكلُّفٌ ومشقَّة، وذلك مانع مِن الخشوع وإخلاص التَّضرُّع(1) لله ╡ وقد جاء في الحديث: ((إِنَّ اللهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ)) وطالب السَّجع في دعائِه همَّتُه في تزويج(2) الكلام ونسجِه(3)، ومَن شَغَلَ فِكْرَه بذلك وكدّّ خاطرَه بتكلُّفِه فقلبُه عن الخشوع غافل لاهٍ لقولِه تعالى(4): {مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِن قَلْبَيْنِ في جَوْفِهِ}[الأحزاب:4].
          فإن قيل: فقد وجد في دعاء النَّبيِّ صلعم نحو ما نهى عنه ابن عبَّاس، وهو قولُه: ((اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الكِتَابِ سَرِيعَ الحِسَابِ اهْزِمِ الأَحْزَابَ)) وقال في تعويذ حسن أو حسين: ((أُعِيذُهُ مِن الهَامَّةِ والسَّامَّةِ وَكُلِّ عَينٍ لَامَّةٍ)) وإنَّما أراد مُلمَّة فللمقاربة بين الألفاظ وإتباع الكلمة أخواتِها في الوزن قال: (لَامَّة).
          قيل: هذا يدلُّ أنَّ نهيَه صلعم عن السَّجع إنَّما أراد به مَن يتكلَّف(5) السَّجع في حين دعائِه، فيمنعُه مِن الخشوع كما قدَّمنا، وأمَّا إذا تكلَّم به طبعًا مِن غير مؤنة ولا تكلَّف، أو حفظَه قبل وقت دعائِه مسجوعًا فلا يدخل في النَّهي عنه لأنَّه لا فرق حينئذ بين المسجوع وغيرِه لأنَّه لا يتكلَّف صنعتَه وقت الدُّعاء فلا يمنعُه ذلك مِن إخلاص الدُّعاء والخشوع والله أعلم.
          وفيه مِن الفقه: أنَّه يكرَه الإفراط في الأعمال الصَّالحة خوف الملل لها والانقطاع عنها، وكذلك كان النَّبيُّ صلعم يفعل، كان يتخوَّل أصحابَه بالموعظة في الأيَّام كراهة السَّآمة عليهم، وقال صلعم: ((اكْلَفُوا مِنَ العَمَلِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا)).
          وفيه: أنَّه لا ينبغي أن يحدِّث بشيءٍ مَن كان في حديث حتَّى يفرغ منه.
          وفيه: أنَّه لا ينبغي نشر الحكمة والعلم ولا الحديث بهما مَن لا يحرص على سماعِهما وتعلُّمِهما، فمتى حدَّث به مَن يشتهيه ويحرص عليه كان أحرى أن ينتفع به ويحسن موقعُه عنده، ومتى حدَّث به مَن لا يشتهيه لم يحسن موقعُه عندَه(6)، وكان في ذلك إذلال للعلم وحطٌّ له، والله ╡ قد رفع قدرَه حين جعلَه سببًا إلى معرفة توحيدِه وصفاتِه ╡، وإلى علم دينه وما تعبَّد به خلقَه. /


[1] في (ص): ((الخضوع)).
[2] في (ص): ((ازدواج)).
[3] في (ص): ((وسجعه)).
[4] في (ت) و(ص): ((لقوله الله)).
[5] في (ص): ((تكلف)).
[6] قوله: ((عنده)) زيادة من (ص).