شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب التعوذ من المأثم والمغرم

          ░39▒ بابُ التَّعَوُّذِ مِنَ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ.
          فيه: عَائِشَةُ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكَسَلِ وَالْهَرَمِ، وَالْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ النَّارِ، وَعَذَابِ النَّارِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْغِنَى، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْفَقْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ عَنِّي خَطَايَاي بالِمَاءِ والثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّ قَلْبِي مِنَ الْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الأبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ، وَبَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَاي كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ). [خ¦6368]
          وترجم له: باب الاستعاذة مِن فتنة الغنى، وترجم له: باب الاستعاذة مِن فتنة الفقر، وترجم لحديث أنس: باب الاستعاذة مِن الجُبن والكسل وفيه: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ والحَزَنِ والبُخْلِ، وَضَلَعِ الدَّينِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ)).
          وترجم(1): باب التَّعوُّذ مِن البخل وفيه سعد عن النَّبيِّ صلعم: ((اللَّهُمَّ(2) إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ البُخْلِ وَالجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِن الرَّدِّ إِلَى أَرْذَلِ العُمُرِ)) وترجم له ولحديث عائشة: باب الاستعاذة مِن أرذل العمر، وترجم لحديث أنس: باب التَّعوُّذ مِن أرذل العمر، وفيه: ((أَعُوذُ بِكَ مِنَ الهَرَمِ)).
          قال المؤلِّف: جميع أبواب الاستعاذة الَّتي ترجم بها(3) تدلُّ آثارُها على أنَّه ينبغي سؤال الله تعالى والرَّغبة إليه في كلِّ ما ينزل بالمرء مِن حاجاتِه، وأن يعيَّن كلَّ ما يدعو فيه، ففي ذلك إطالةُ الرَّغبة إلى الله تعالى والتَّضرُّع إليه وذلك طاعة لله ╡، وكان النَّبيُّ صلعم يتعوَّذ بالله مِن كلِّ ذلك ويعيِّنُه باسمِه، وإن كان الله تعالى قد عصمَه مِن كل شرٍّ، ليُلزِم نفسَه خوف الله تعالى وإعظامَه، وليسُنَّ ذلك لأُمَّتِه ويعلِّمَهم كيف الاستعاذة مِن كلِّ شيء، وقد روى ثابت البُناني عن أنس قال: قال رسول الله صلعم: ((لِيَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَاتِهِ كُلِّهَا، حَتَّى يَسْأَلَهُ شِسْعَ نَعْلِهِ إِذَا انْقَطَعَ)) ليستشعر العبد الافتقار إلى ربِّه ╡ في كلِّ أمر وإن دقَّ ولا(4) يستحيي مِن سؤالِه ذلك، فالتَّعوُّذ مِن فتنة المحيا والممات دعاء جامع لمعان كثيرة لا تُحصى وكذلك التَّعوُّذ مِن المأثم(5)، روي عن عائشة: أنَّ رجلًا قال للنَّبيِّ صلعم: ما أكثر ما تستعيذ مِن المأثم(6) والمغرم. فقال رسول الله صلعم: ((إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ، حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ)).
          و(ضَلَعِ الدَّيْنِ) هو الَّذي لا يجد دَينَه(7) مِن حيث يؤدِّيه، وهو مأخوذ مِن قول العرب: حِمْلٌ مُضْلِعٌ أي: ثقيل، ودابَّة مُضْلِعٌ: لا تقوى على الحمل، عن صاحب «العين»، فمَن كان هكذا فلا محالة أنَّه يؤكِّد ذلك عليه الكذب في حديثِه، والخُلْف في وعدِه.
          قال الطَّبري: فإن قال قائل: فإذ(8) قد صح تعوُّذ النَّبيِّ صلعم مِن المغرم، فما أنت قائل فيما روى جعفر بن محمَّد عن أبيه عن عبد الله بن جعفر قال: قال رسول الله صلعم: ((إِنَّ اللهَ مَعَ الدَّائِنِ حَتَّى يَقْضِيَ دَيْنَهُ، مَا لَمْ يَكُنْ فِيمَا كَرِهُ اللهُ ╡)) وكان عبد الله بن جعفر يقول: اذهب فخذ لي بدين، فإنِّي أكره أن أبيت ليلة إلا والله معي بعد ما سمعت مِن رسول الله صلعم؟
          قيل: كلا الخبرين صحيح، وليس في أحدِهما / دفع(9) للآخر فأمَّا قولُه صلعم: ((إِنَّ اللهَ مَعَ الدَّائِنِ حَتَّى يَقْضِيَ دَيْنَهُ مَا لَمْ يَكُنْ فِيْمَا يَكْرَهُ اللهُ ╡)) فهو المستدين الَّذي ينوي قضاء دينِه، وعندَه في الأغلب ما يقضيه فالله(10) تعالى في عونِه على قضائِه، وأمَّا المغرم الَّذي استعاذ منه صلعم، فإنَّه الدَّين الَّذي استُدين على أحد ثلاثة أوجه: إمَّا فيما يكرَهُه الله ╡ ثمَّ لا(11) يجد سبيلًا إلى(12) قضائِه فحقُّ على(13) الله تعالى أن يُرْدِيَه(14)، ومستدين فيما لا يكرَهُه ولكنَّه لا وجه عنده لقضائِه إن طالبَه(15) به صاحبُه، فهو معرِّضٌ لهلاك(16) أموال النَّاس ومتلفٌ لها، أو مستدينٌ(17) له إلى القضاء سبيلٌ غير أنَّه نوى ترك القضاء وعزم على جحدِه، فهو عاص لربِّه وظالم لنفسِه، فكل هؤلاء في القضاء مخلفون وفي حديثهم كاذبون.
          فكان معلومًا بذلك أنَّ الحال الَّتي كرِه فيها ◙ الدَّين غير الحال الَّتي ترخَّص لنفسِه فيها، وذلك أنَّه ◙ مات ودرعُه رهن عند يهودي بعشرين صاعًا مِن شعير، وأمَّا فتنة الغنى فيخشى منها بطر المال وما يؤول مِن عواقب الإسراف في إنفاقِه وبذلِه فيما لا ينبغي، ومنع حقوق الله فيه، ففتنة(18) الغنى متشعِّبة إلى ما لا يحصى عدُّه، وكذلك فتنة الفقر يخشى منها قلَّة الصَّبر على الإقلال والتَّسخُّط له وتزيين الشَّيطان للمرء حال الغنى وما يؤول مِن عاقبة ذلك لضعف البشريَّة، وكذلك الاستعاذة مِن العجز والكسل لأنَّهما يمنعان العبد مِن أداء حقوق الله ╡ وحقوق نفسِه وأهلِه، وتضييع النَّظر في أمر معادِه وأمر دنياه، وقد أُمر المؤمن بالاجتهاد في العمل والإجمال في الطَّلب وأن لا(19) يكون عالةً ولا عيالًا على غيرِه ما مُتِّع بصحَّة جوارحِه وعقلِه، وكذلك الجبن مهانة في النَّفس وذلَّة، ولا ينبغي للمؤمن أن يكون ذليلًا بالإيمان ولزوم طاعة الله تعالى الَّتي تؤدِّي إلى النَّعيم المقيم، فينبغي للمؤمن أن يكثر التعوُّذ مِن ذلك، والهرم هو أرذل العمر(20) الَّذي ينتهي بصاحبه إلى الخرف وذهاب العقل، فيعود العالم جاهلًا ويصير إلى حال من لا تمييز له، ولا يقدر على أداء ما يلزمُه مِن حقوق الله ╡ وحاجة نفسِه، ومثل هذا خشي عمر ☺ حين قال: اللَّهُمَّ كبرت سنِّي وضعفت قوتي وانتشرت رعيتي فاقبضني إليك غير مفرِّط ولا مضيِّع. وكان سنُّه حينئذ فيما قال مالك ستِّين سنةً، وقيل: خمس وخمسين.
          فخشي ☺ مزيد ضعفِه فيضيِّع ممَّا(21) قلَّده الله شيئًا، ومَن متَّعَه الله بصحَّة لم يزدْه(22) طول العمر إلا خيرًا يستكثر مِن الحسنات ويستعتب مِن السيِّئات، وكذلك الهمُّ والحزن لا ينبغي للمؤمن أن يكون مهمومًا بشيء مِن أمور الدُّنيا، فإن الله تعالى قد قدَّر الأمور وأحكمَها(23) وقدَّر الأرزاق، فلا يجلب الهمُّ للعبد في الدُّنيا خيرًا، ولا يأتيه بما لم يُقدَّر له، وفي طول الهمِّ قلَّة الرِّضا(24) بقدر الله وسخطُه(25) على ربِّه.
          وقد كان عُمَر بن عبد العزيز يقول: اللَّهُمَّ رضِّني بالقضاء، وحبِّب إليَّ القدر حتَّى لا أحبَّ تقديم ما أخَّرت ولا تأخير ما قدَّمت. ومَن آمن بالقدر فلا ينبغي له أن يهتمَّ على شيء فاتَه مِن الدُّنيا ولا يتهم ربَّه، ففيما قضى له الخيرة، وإنَّما ينبغي للعبد الاهتمام بأمر الآخرة ويفكِّر في معادِه وعرضِه على ربِّه، وكيف ينجو مِن سؤالِه عن الفتيل والقطمير ولذلك(26) قال ◙: ((لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيْلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا)) فهاهنا يحسن الهمُّ والبكاء.
          وغلبة الرِّجال أشد مِن الموت لأنَّ المغلوب يصير كالعبد لمَن غلبَه وقهرَه، وكذلك البخل استعاذ منه ◙ لقولِه ╡: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الحشر:9]، وقال صلعم: ((وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَى مِنَ البُخْلِ)) ومعنى ذلك أنَّ البخيل يمنع حقوق الله، وحقوق الآدميِّين، ويمنع معروفَه ورفدَه، ويسيء عشرة أهلِه وأقاربِه.
          قال الطَّبري: فإن قيل(27): قد دعا النَّبيُّ صلعم بالمفصَّلات والجوامع، وكان السَّلف يستحبون الدُّعاء إلى الله ╡ بالجوامع كنحو الرَّغبة في العفو والعافية، والمعافاة في الدُّنيا والآخرة اكتفاءً منهم بعلم الله ╡ بموضع حاجتِهم ومبلغًا.
          قيل: لكلِّ نوع مِن ذلك حالة يختار العمل به فيها على الآخَر(28) فالجوامع تحتاج في حال الحاجة إلى الإنجاز والاقتصاد، والمفصَّلات بالأسماء والصِّفات في حالة الحاجة إلى إدامة الرَّغبة إلى مَن بيدِه مفاتيح خزائن السَّماوات والأرض استفتاحًا بذلك(29) مغاليقَها، وقد دعا ◙ بكلِّ ذلك في مواضعِه. /


[1] زاد في المطبوع: ((له)).
[2] قوله: ((اللهم)) ليس في المطبوع.
[3] قوله: ((بها)) ليس في (ت) و(ص).
[4] في (ت): ((لا)) وفي (ص): ((كل أمر وارد ولا)).
[5] زاد في (ت) و(ص): ((والمغرم)).
[6] قوله: ((روي عن عائشة...تستعيذ من المأثم)) ليس في (ت) و(ص).
[7] في (ت) و(ص): ((دائنه)).
[8] في (ز): ((فإذا)) وفي (ت): ((وإذ)) والمثبت من (ص).
[9] في (ص): ((دفعاً)).
[10] في (ت): ((والله)).
[11] في (ص): ((ولا)).
[12] في (ص): ((في)).
[13] قوله: ((على)) ليس في (ت) و(ص).
[14] في (ص) والمطبوع: ((يؤديه)) وهو تصحيف فاحش.
[15] في المطبوع: ((طالب)).
[16] في (ت): ((إهلاك)).
[17] في (ت) و(ص): ((لها ومستدين)).
[18] زاد في (ت): ((المال)).
[19] في (ت) و(ص): ((الطلب ولا)).
[20] قوله: ((والهرم هو أرذل العمر)) ليس في (ت) و(ص).
[21] في (ت): ((ما)).
[22] في (ت) و(ص): ((يزد)).
[23] في (ص): ((فأحكمها)).
[24] في (ت) و(ص): ((رضا)).
[25] في (ص): ((وسخط)).
[26] قوله: ((ولذلك)) ليس في (ص).
[27] في (ص): ((فإن قال قائل)).
[28] في (ص): ((الأخرى)).
[29] في (ت) و(ص): ((لذلك)).