شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب رفع الأيدي في الدعاء

          ░23▒ بَابُ رَفْعِ الأيْدِي في الدُّعَاءِ.
          وَقَالَ أَبُو مُوسَى: (دَعَا النَّبيُّ صلعم ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ وَرَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ).
          وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: (رَفَعَ النَّبيُّ صلعم يَدَيْهِ، وَقَالَ(1): اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ).
          فيه(2): أَنَسٌ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم رَفَعَ يَدَيْهِ حتَّى رَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ). [خ¦6341]
          قال الطَّبري: اختلف النَّاس في رفع اليدين في الدُّعاء في غير الصَّلاة، فكان بعضُهم يختار إذا دعا / الله تعالى في حاجتِه أن يشير بأصبعه السَّبَّابة، ويقول ذلك الإخلاص ويَكرَه رفع اليدين.
          ذِكْرُ مَن قال ذلك: روى شعبة وعَبْثَر وخالد عن حُصين عن عُمارة بن رُوَيْبَةَ: أنَّه رأى(3) بشر بن مروان رافعًا يديه على المنبر، فسبَّه وقال: لقد رأيت رسول الله صلعم لا يزيد على هذا يعني أن يشير بالسبَّابة. وروى شعبة(4) عن قَتادة قال: قال(5) رأى ابن عمر قومًا رفعوا أيديهم، فقال: مَن يتناول هؤلاء فوالله لو كانوا على رأس أطول جبل ما ازدادوا مِن الله قربًا.
          وكرهَه جُبير بن مُطعِم، ورأى شُريح رجلًا رافعًا يديه يدعو، فقال: مَن تتناول بها، لا أُمَّ لك. وقال مسروق لقوم رفعوا أيديهم قد رفعوها: قطعَها الله. وكرِه ابن المسيَّب رفع الأيدي والصُّوت في الدُّعاء، وكان قَتادة يشير بأصبعه ولا يرفع يديه، ورأى سعيد بن جُبير رجلًا يدعو رافعًا يديه فقال: ليس في ديننا تكفير. واعتلُّوا بحديث عُمارة بن رُوَيبة المتقدِّم.
          وكان بعضُهم يختار أن يبسط كفَّيه رافعَهما، ثم يختلفون في صفة رفعِهما حذو صدرِه بطونُهما إلى وجهِه، روي ذلك عن ابن عُمر، وقال ابن عبَّاس: إذا رفع يديه حذو صدرِه فهو الدُّعاء. وكان علي بن أبي طالب يدعو بباطن كفَّيه، وعن أنس مثلَه، واحتجُّوا بما رواه صالح بن حسَّان(6) عن محمَّد بن كعب القرظي عن ابن عبَّاس عن النَّبيِّ صلعم قال: ((إِذَا سَأَلْتُمُ اللهَ ╡ فَاسْأَلُوهُ بِبُطُونِ أَكُفِّكُمْ وَلَا تَسْأَلُوهُ بِظُهُورِهَا، وَامْسَحُوا بِهَا وُجُوهَكُمْ)).
          وكان آخرون يختارون رفع أيديهم إلى وجوهِهم، روي ذلك عن ابن عُمر وابن الزُّبير، واعتلُّوا بما رواه حمَّاد بن سلمة عن بشر بن حرب قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: ((وَقَفَ رَسُولُ الله صلعم بِعَرَفَةَ، فَجَعَلَ يَدْعُو، وَجَعَلَ ظَهْرَ كَفَّيْهِ مِمَّا يَلِي وَجْهَهُ وَرَفَعَهُمَا فَوْقَ ثَدْيَيْهِ وَأَسْفَلَ مِنْ مَنْكِبَيْهِ)).
          وكان آخرون يختارون رفع أيديهم حتَّى يحاذوا بها وجوههم وظهورها مما يلي وجوههم، وروى يحيى بن سعيد عن القاسم قال: رأيت ابن عَمْر عند القاصِّ(7) يرفع يديه يدعو حتَّى يحاذي منكبيه ظاهرهُما يليانه. وعن ابن عبَّاس قال: إذا أشار أحدُكم بأصبع واحدة فهو الإخلاص، وإذا رفع يديه حذو صدرِه فهو الدُّعاء، وإذا رفعَهما حتَّى يجاوز بهما رأسَه، وظاهرُهُما يلي وجهَه فهو الابتهال. واحتجوا بحديث أبي موسى وابن عُمر وأنس: ((أَنَّ النَّبيَّ صلعم كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي الدُّعَاءِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إِبْطَيْهِ)).
          قال الطَّبري: والصَّواب أن يقال إنَّ كل هذه الآثار المرويَّة عن النَّبيِّ صلعم متَّفقة غير مختلفة المعاني، وللعمل بكلِّ ذلك(8) وجه صحيح، فأمَّا الدُّعاء بالإشارة بالأصبع الواحدة فكما قال ابن عبَّاس أنَّه الإخلاص والدُّعاء ببسط(9) اليدي والابتهال رفعهما، وقد حدَّثني محمَّد بن خالد بن خِرَاش قال: حدَّثني مسلم عن عُمَر بن نَبْهان عن قَتادة عن أنس قال: ((رَأَيتُ النَّبيَّ صلعم يَدْعُو بِظَهْرِ كَفَّيْهِ وَبِبَاطِنِهِمَا)) ويجوز(10) أن يكون ذلك كان مِن النَّبيِّ صلعم لاختلاف أحوال الدُّعاء كما قال ابن عبَّاس، وجائز أن يكون إعلامًا منه بسعة الأمر في ذلك، وأنَّ لهم فعل أي ذلك شاؤوا في حال دعائِهم، غير أنَّ أحبَّ الأمر في ذلك إليَّ أن يكون اختلاف هيئة الدَّاعي على قدر اختلاف حاجتِه، وأمَّا الاستعاذة والاستجارة فأحبُّ الهيئات إليَّ فيهما هيئة المبتهل لأنَّها أشبه بهيئة المستجير، وقد قال شَهْر بن حَوْشَب: المسألة ببطن الكفَّين، والتَّعوُّذ مثل التَّكبير إذا افتتح الصَّلاة.
          فإن قال: فقد جعلتَ للدَّاعي رفع يديه في كلِّ حال فما أنت قائل فيما روى يزيد بن زُرَيع حدَّثنا سعيد بن أبي عروبة عن قَتادة أنَّ أنس بن مالك حدَّثه: ((أَنَّ النَّبيَّ صلعم كَانَ لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنَ الدُّعَاءِ إِلَّا عِنْدَ الاِسْتِسْقَاءِ، فَإنَّهُ كَانَ يَرْفَعُهُمَا حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إِبْطَيْهِ))؟.
          قيل: قد روى ابن جُريج عن مقسم عن ابن عبَّاس عن النَّبيِّ صلعم أنه قال: ((لَا تُرْفَعُ الأَيْدِي إِلَّا فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنٍ فِي بَدْءِ الصَّلَاة، وَإِذَا رَأَيْتَ البَيْتَ، وَعَلَى الصَّفَا وَالمَرْوَةَ، وَعَشِيَّةَ عَرَفَةَ، وَبِجَمْعٍ، وَعِنْدَ الجَمْرَتَيْنِ)). وهذا مخالف لحديث سعيد بن أبي عروبة عن قَتادة، وقد ثبت عن النَّبيِّ صلعم رفع الأيدي في الدُّعاء مطلقًا مِن وجوه.
          منها: حديث أبي موسى وابن عُمر وأنس مِن طرق أثبت مِن حديث سعيد بن أبي عروبة عن قَتادة عن أنس، وذلك أنَّ سعيد بن أبي عروبة كان قد تغيَّر عقلُه وحالُه في آخر عمرِه، وقد خالفَه / شعبة في روايتِه عن قَتادة عن أنس فقال فيه: ((كَانَ رَسُولُ الله صلعم يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إِبْطَيْهِ)). ولا شكَّ أنَّ شعبة أثبت مِن سعيد بن أبي عروبة.
          وحدَّثنا ابن مثنَّى(11) قال: حدَّثنا ابن أبي عدي عن جعفر بن ميمون صاحب الأنماط عن أبي عثمان، عن سلمان قال: قال رسول الله صلعم: ((إِنَّ رَبَّكُمْ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِيْ مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا)).
          فإن قيل: قد روي عن عطاء(12) وطاوس ومجاهد(13) أنَّهم كرهوا رفع الأيدي في دبر الصَّلاة قائمًا.
          قيل: يمكن أن يكون ذلك إذا لم ينزل(14) بالمسلمين نازلة يحتاجوا معها إلى الاستغاثة إلى الله تعالى بالتَّضرُّع والاستكانة، فالقول كما قال عطاء وطاوس ومجاهد، وإن نزلت بهم نازلة احتاجوا معها إلى الاستغاثة إلى الله بالتَّضرُّع(15) والاستكانة(16) لكشفِها عنهم، فرفع الأيدي عند مالك حسن جميل(17).


[1] قوله: ((وقال)) ليس في (ت) و(ص).
[2] في (ت) و(ص): ((وفيه)).
[3] قوله: ((رأى)) ليس في (ت).
[4] كذا في (ص): ((شعبة)) وفي (ت) والمطبوع: ((سعيد)) وفي (ز) رسمها على الوجهين ((سعيد)) و ((شعبة)).
[5] قوله: ((قال)) ليس في (ت) و(ص).
[6] في (ز) والمطبوع تصحيفًا: ((كيسان)) والمثبت من (ت) و (ص).
[7] في (ص) والمطبوع: ((ابن عمرو بن العاص)).
[8] في (ص): ((والعمل بذلك)).
[9] في (ت) و(ص): ((بسط)).
[10] في (ت) و(ص): ((وجائز)).
[11] في (ت) و(ص): ((وحديث ابن مثنى)).
[12] زاد في (ت) و(ص): ((وجابر)).
[13] قوله: ((ومجاهد)) ليس في (ت) و(ص).
[14] في (ص): ((يرى)).
[15] في (ت) و(ص): ((والتضرع)).
[16] قوله: ((والاستكانة)) ليس في (ت) و(ص).
[17] في المطبوع: ((وجميل)).