شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الدعاء نصف الليل

          ░14▒ بابُ الدُّعَاءِ نِصْفَ اللَّيْلِ.
          فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم قَالَ: يَنزلُ رَبُّنَا جَلَّ وعزَّ، كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ(1) لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ). [خ¦6321]
          هذا وقت شريف مُرغَّب فيه خصَّه الله ╡ بالتَّنزُّل فيه، وتفضَّل على عبادِه بإجابة مَن دعا فيه، وإعطاء مَن سألَه، إذ هو وقت خلوة وغفلة واستغراق في النَّوم واستلذاذ له(2)، ومفارقة الدَّعة واللَّذَّة صعب على العباد، لا سيَّما لأهل الرَّفاهية في زمن البرد، ولأهل التَّعب والنَّصب في زمن قصر اللَّيل، فمَن آثر القيام لمناجاة ربَّه والتَّضرُّع إليه في غفران ذنوبِه، وفكاك رقبتِه مِن النَّار وسألَه التَّوبة في هذا الوقت الشاقِّ على خلوة نفسِه بلذَّتِها ومفارقة دعتِها وسكنِها، فذلك دليل على خلوص نيَّتِه وصحة رغبتِه فيما عند ربِّه، فضُمنت له الإجابة الَّتي هي مقرونة بالإخلاص وصدق النيَّة في الدُّعاء، إذ لا يقبل الله دعاءً مِن قلب غافل لاهي(3).
          وقد أشار النَّبيُّ صلعم إلى هذا المعنى بقولِه صلعم: ((والصَّلَاةُ بِاللَّيلِ والنَّاسُ نِيَامٌ)) فلذلك نبَّه الله تعالى عبادَه على الدُّعاء في هذا الوقت الَّذي تخلو فيه النَّفس مِن خواطر الدُّنيا وعِلَقِها ليستشعر العبد الجدَّ والإخلاص لربِّه ╡ فتقع الإجابة منه ╡ رفقًا مِن الله تعالى بخلقِه ورحمةً لهم فله الحمد دائمًا والشُّكر كثيرًا على ما ألهم إليه عبادَه مِن مصالِحهم، ودعاهم إليه مِن منافعِهم لا إله إلا هو الكريم الوهَّاب.
          فإن قيل: كيف ترجم: (بابُ الدُّعَاءِ نِصْفَ اللَّيلِ) وذكر في(4) الحديث أنَّ التَّنزُّل في ثلث اللَّيل الآخر؟.
          قيل: إنَّما أُخذ ذلك مِن قولِه ╡: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا. نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا}[المزمل:2-3]، فالتَّرجمة(5) تقوم مِن دليل القرآن، والحديث يدلُّ على أنَّ وقت الإجابة ثلث اللَّيل إلَّا أنَّ ذكر النِّصف في كتاب الله يدلُّ على تأكيد المحافظة على وقت التَّنزُّل قبل دخولِه ليأتي أوَّل وقت الإجابة، والعبد مرتقب له مستعد للإنابة فيكون ذلك / سببًا(6) للإجابة، وينبغي ألا يمرَّ وقت مِن اللَّيل والنَّهار إلا أحدث العبد فيه دعاءً وعبادةً لله تعالى.


[1] في (ص): ((فأستجب)).
[2] في المطبوع: ((به)).
[3] في المطبوع: ((لاه)).
[4] قوله: ((في)) ليس في (ت) و(ص).
[5] في (ت): ((والترجمة)).
[6] في (ت) و(ص): ((سبب)).