شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب أفضل الاستغفار

          ░2▒ بابُ فَضْلِ الِاسْتِغْفَارِ.
          وَقَوْلِهِ ╡: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا. يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح:10-11]{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا الله(1)} الآية[آل عِمْرَان:135].
          فيه: شَدَّادُ بنُ أَوْسٍ: (أَنَّ رسُولَ الله صلعم قَالَ: سَيِّدُ الاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ(2): اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لي، فَأنه لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أَنْتَ، مَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ، قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ، وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ)(3). [خ¦6306]
          قال المؤلِّف: قولُه صلعم: (وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ) يعني العهد الَّذي أخذَه الله تعالى على عبادِه في أصل خلقِهم حين أخرجَهم مِن أصلاب آبائِهم أمثال الذرِّ، وأشهدَهم على أنفسِهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}[الأعراف:172]فأقرُّوا له في أصل خلقِهم بالرُّبوبيَّة، وأذعنوا له بالوحدانيَّة.
          والوعد: هو ما وعدهم ╡ أنَّه مَن مات منهم لا يشرك(4) بالله شيئًا وأدَّى ما افترض الله عليه أن يدخل الجنَّة، فينبغي لكلِّ مؤمن أن يدعو الله ╡ أن يميتَه على ذلك العهد، وأن يتوفَّاه الله على الإيمان لينال ما وعد ╡ مَن وفَّى بذلك اقتداءً بالنَّبيِّ صلعم في دعائِه بذلك، ومثل ذلك سأل الأنبياء ‰ اللهَ ╡ في دعائِهم، فقال إبراهيم ◙: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ}[إبراهيم:35]وقال يوسف ◙: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}[يوسف:101]وقال أيضًا(5) نبيُّنا صلعم: ((وَإِذَا أَرَدْتَ بِقَومٍ فِتْنَةً فَاقْبِضْنِي / إِلَيْكَ غَيرَ مَفْتُونٍ)). وأعلم أمَّتَه صلعم بقولِه: (أَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتَ) أن أحدًا لا يقدر على الإتيان بجميع ما للهِ ╡ عليه(6)، ولا الوفاء بكمال(7) الطَّاعات والشُّكر على النِّعم، إذ نعمُه تعالى كثيرة ولا يُحَاط بها، ألا ترى قولَه تعالى: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً}[لقمان:20]فمَن يقدر مع هذا أن يؤدِّي شكر النِّعم الظَّاهرة، فكيف الباطنة؟
          لكن قد رفق الله تعالى بعبادِه فلم يكلِّفهم مِن ذلك إلا وسعَهم وتجاوز عمَّا فوق ذلك، وكان صلعم يمتثل هذا المعنى في مبايعتِه للمؤمنين، فيقول: أبايعكم على السَّمع والطَّاعة فيما استطعتم.
          فإن قيل: أين لفظ الاستغفار في هذا الدُّعاء، وقد سمَّاه النَّبيُّ صلعم سيِّد الاستغفار؟
          قيل: الاستغفار في لسان العرب هو طلب المغفرة مِن الله ╡ وسؤالُه غفران الذُّنوب السَّالفة والاعتراف بها، وكلُّ دعاء كان في هذا المعنى فهو استغفار، مع أنَّ في الحديث لفظ الاستغفار وهو قولُه: (فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ).
          وقولُه: (مَنْ قَالَهَا مُوْقِنًا بِهَا) يعني مخلصًا مِن قلبِه ومصدِّقًا بثوابِها فهو مِن أهل الجنَّة، وهذا كمعنى قولِه صلعم: ((مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيْمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)).
          وقوله: (أبوء لك بنعمتك وأبوء بذنبي) قال صاحب «الأفعال»: باء بالذنب: أقرَّ.


[1] قوله: ((ذكروا الله)) ليس في (ت) و(ص).
[2] قوله: ((أن تقول)) ليس في (ص).
[3] قوله: ((وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ... مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ)) زيادة من (ص).
[4] في (ص): ((من مات لا يشرك منهم)).
[5] قوله: ((نبينا)) ليس في (ت) و(ص).
[6] قوله: ((عليه)) ليس في (ت) و(ص).
[7] في (ص): ((بجميع)).