شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب التوبة

          ░4▒ بابُ{تُوبُوا إلى اللهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا}[التحريم:8]وقَالَ قَتَادَةُ: {تَوْبَةً نَصُوحًا} الصَّادِقَةُ النَّاصِحَةُ(1).
          فيه: الْحَارِثُ بنُ سُوَيْدٍ، حَدَّثَنَا ابنُ مَسْعُودٍ حَدِيثَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَنِ النَّبيِّ صلعم وَالآخَرُ عَنْ نَفْسِهِ، قَالَ: (إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى / ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ على أَنْفِهِ، ثُمَّ قَالَ(2) بِهِ هَكَذَا، ثُمَّ قَالَ: لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ العَبْدِ مِنْ رَجُلٍ نَزَلَ مَنْزِلًا وَبِهِ مَهْلَكَةٌ، وَمَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ، فَنَامَ نَوْمَةً، فَاسْتَيْقَظَ، وَقَدْ ذَهَبَتْ رَاحِلَتُهُ حتَّى إِذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَرُّ وَالْعَطَشُ، أَوْ مَا شَاءَ اللهُ، قَالَ: أَرْجِعُ مَكَانِي، فَرَجَعَ فَنَامَ نَوْمَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَإِذَا رَاحِلَتُهُ عِنْدَهُ). [خ¦6308]
          وفيه: أَنَس، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (اللهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ سَقَطَ عَلَى بَعِيرِهِ، وَقَدْ أَضَلَّهُ في أَرْضِ فَلاةٍ). [خ¦6309]
          قال صاحب «العين»: التَّوبة النَّصوحة: الصَّادقة. وقيل: إنَّما سمَّى الله التَّوبة نصوحًا لأنَّ العبد ينصح فيه نفسَه ويقيَها النَّار لقولِه تعالى: {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}[التحريم:6]، وأصل قولِه تعالى: {تَوْبَةً نَّصُوحًا}[التحريم:8]توبةً منصوحًا فيها، إلا أنَّه أخبر عنها باسم الفاعل للنُّصح على ما ذكره سيبويه عن الخليل في قولِه تعالى: {عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ}[الحاقة:21]أي ذات رضا، وذكر أمثلة لهذا كثيرة عن العرب كقولهم: ليل نائم، وهمٌّ ناصب، أي: ينام فيه وينصب، فكذلك {تَوْبَةً نَّصُوحًا}[التحريم:8]أي: ينصح فيها(3)، والتَّوبة فرض مِن الله تعالى على كل مَن علم مِن نفسِه ذنبًا صغيرًا أو كبيرًا؛ لقولِه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا تُوبُوا إلى اللهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا}[التحريم:8]. وقال: {وَتُوبُوا إلى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[النور:31]، وقال تعالى: {إنَّما التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ}[النساء:17].
          فكلُّ مُذنب فهو عند مواقعة الذَّنب جاهل وإن كان عالمًا، ومَن تاب قبل الموت تاب مِن قريب، وقال النَّبي صلعم: ((النَّدَمُ تَوْبَةٌ)). وقال: ((إِنَّ العَبْدَ لَيُذْنِبُ الذَّنْبَ فَيَدْخُلُ بِهِ الجَنَّةَ. قِيلَ: كَيْفَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: يَكُونُ بَيْنَ(4) عَيْنَيْهِ تَائِبًا مِنْهُ فَارًّا حتَّى يَدْخُلَ الجَنَّةَ(5))).
          وقال سفيان بن عيينة: التوبةُ نعمة مِن الله تعالى أنعم بها على هذه الأمَّة دون غيرهم مِن الأمم، وكانت توبة بني إسرائيل القتل. وقال الزُّهري: لما قيل لهم: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ}[البقرة:54]قاموا صفَّيْن وقتل(6) بعضُهم بعضًا، حتَّى قيل لهم: كفُّوا. فكانت لهم شهادة للمقتول وتوبةً للحي، وإنَّما رفع الله تعالى عنهم القتل لمَّا أعطوا المجهود في قتل أنفسِهم، فما أنعم الله تعالى على هذه الأمَّة نعمةً بعد الإسلام هي أفضل مِن التَّوبة؛ إنَّ الرَّجل ليفني عمرَه أو ما أفنى منه في المعاصي والآثام، ثم يندم على ذلك ويقلع عنه فيحطُّها الله عنه ويقوم وهو حبيب الله، قال الله تعالى(7): {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}[البقرة:222]، وقال ◙: ((التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ)).
          وقال ابن المبارك: حقيقة التَّوبة لها ستُّ علامات: أوَّلُها: النَّدم على ما مضى. والثَّانية: العزم على أن لا تعود. والثَّالثة: أن تعمد إلى كلِّ فرض ضيَّعتَه فتؤدِّيه. والرَّابعة: أن تعمد إلى مظالم العباد فتؤدِّي إلى كلِّ ذي حقٍّ حقَّه. والخامسة: أن تعمد إلى البَدن الَّذي ربَّيتهُ بالسُّحت والحرام فتذيبه بالهموم والأحزان حتَّى يلصق الجلد بالعظم، ثم تُنشئ بينهما لحمًا طيّبًا إن هو نشأ. والسَّادسة: أن تذيق البدن ألم الطَّاعة كما أذقته لذَّة المعصية.
          وقال ميمون بن مِهْرَان عن ابن عبَّاس: كم تائبٍ يُرَدُّ يوم(8) القيامة يظنُّ أنَّه تائب وليس بتائب، لأنَّه لم يُحكِم أبواب التَّوبة. وقال عبد الله بن سُميط: ما دام قلب العبد مصرًّا على ذنبٍ واحد، فعملُه معلَّق في الهواء، فإن تاب مِن ذلك الذَّنب وإلا بقي عملُه أبدًا معلَّقًا.
          وروى الأصيلي عن أبي القاسم يعقوب بن محمَّد بن صالح البصري إملاءً مِن حفظِه قال: حدَّثنا بكر بن أحمد بن مقبل قال: حدَّثنا عِمْرَان بن عبد الرَّحيم الأصبهاني حدَّثنا خليفة عن عبد الوهَّاب عن محمَّد بن زياد عن علي بن زيد بن جُدعان عن سعيد بن المسيِّب عن أبي الدَّرداء قال: قال رسول الله صلعم: يقول الله ╡: ((إِذَا تَابَ عَبْدِي إِليَّ نَسَّيْتُ جَوَارِحَهُ، وَنَسَّيْتُ البِقَاعَ، وَنَسَّيْتُ حَافِظَيْهِ حتَّى لَا يَشْهَدُوا عَلَيْهِ)).
          وأمَّا الحديث الَّذي حدث ابن مسعود عن نفسِه(9) فقولُه: ((إِنَّ المُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيهِ، وَالفَاجِرُ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ)) فينبغي لمَن أراد أن يكون مِن جملة المؤمنين أن يخشى ذنوبَه، ويعظم خوفُه منها، ولا يأمن عقاب الله تعالى عليها فيستصغرها، فإنَّ الله يعذِّب على القليل وله الحجَّة البالغة في ذلك.
          وأمَّا فرح الله بتوبة العبد فقال أبو بكر بن فُوْرَك: الفرح في كلام العرب بمعنى السُّرور، من ذلك قولُه تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنتُمْ في الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا}[يونس:22] / أي سُرُّوا بها، فهذا المعنى لا يليق بالله ╡ لأنَّه يقتضي جواز الحاجة عليه ونيل المنفعة، والفرح بمعنى البطر والأَشِر ومنه قولُه تعالى: {إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ}[القصص:76]. والوجه الثَّالث مِن الفرح أن(10) يكون بمعنى الرضا مِن قولِه تعالى: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}[المؤمنون:53]أي راضون، ولمَّا كان مَن بُشِّر بالشَّيء فقد(11) رضيَه، قيل أنَّه(12) فرح به على معنى أنَّه به(13) راض، وعلى هذا تُتَأَوَّلُ الآثار لأنَّ البطر والسُّرور لا يليقان بالله ╡.


[1] قوله: ((وقَالَ قَتَادَةُ: {تَوْبَةً نَصُوحاً}، الصَّادِقَةُ النَّاصِحَةُ)) ليس في (ت) و(ص).
[2] في (ت): ((فقال)).
[3] قوله: ((فيها)) ليس في (ت).
[4] في (ز): ((وقتلوا)) والمثبت من (ت) و (ص).
[5] قوله: ((الجنة)) ليس في (ت).
[6] في (ت) و(ص): ((وقتل)).
[7] في (ت) و(ص): ((قال تعالى)).
[8] قوله: ((يوم)) ليس في (ت) و(ص).
[9] قوله: ((نفسه)) ليس في (ص).
[10] في (ص): ((الَّذي)).
[11] في (ت) و(ص): ((قد)).
[12] زاد في (ت) و(ص): ((قد)).
[13] قوله: ((به)) ليس في (ص).