نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث معاوية: إن النبي سماه الزور

          5938- (حَدَّثَنَا آدَمُ) هو: ابنُ أبي إياس، قال: (حَدَّثَنَا شُعْبَةُ) قال: (حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ) الجمليُّ، قال: (سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ، قَالَ: قَدِمَ مُعَاوِيَةُ) أي: ابن أبي سفيان ☺ (الْمَدِينَةَ آخِرَ قَدْمَةٍ) بفتح القاف وسكون الدال (قَدِمَهَا) سنة إحدى وخمسين (فَخَطَبَنَا) على منبر المدينة (فَأَخْرَجَ كُبَّةً مِنْ شَعَرٍ) بضم الكاف وتشديد الموحدة (قَالَ: مَا كُنْتُ / أَرَى أَحَداً يَفْعَلُ هَذَا غَيْرَ الْيَهُودِ) وفي رواية مسلم من وجهٍ آخر عن سعيد بن المسيِّب: أنَّ معاوية قال: ((أيُّكم أخذ زيَّ سوءٍ؟)) (إِنَّ النَّبِيَّ صلعم سَمَّاهُ الزُّورَ؛ يَعْنِي: الْوَاصِلَةَ) من النِّساء (فِي الشَّعَرِ) وهذا الحديث عليه رقم علامة السُّقوط لأبي ذرٍّ في «الفرع».
          قال ابن الأثير: الزُّور: الكذب والباطل والتُّهمة، ومنه سمِّي شاهد الزُّور، وسَمَّى النَّبي صلعم وصل الشَّعر زواراً؛ لأنَّه كذبٌ وتغييرٌ لخلق الله تعالى. وقال النَّوويُّ: الأحاديث صريحةٌ في تحريم الوصل مطلقاً، وهذا هو الظَّاهر المختار، وقد فصَّله الشَّافعيَّة، فقالوا: لو وُصِلَتْ بشعرٍ آدميٍّ فهو حرامٌ بلا خلاف؛ لأنَّه يحرم الانتفاع بشعر الآدميِّ، وسائر أجزائه لكرامته، وأمَّا الشَّعر الطَّاهر من غير الآدميِّ فإن لم يكن لها زوجٌ ولا سيِّدٌ فهو حرامٌ أيضاً، وإن كان ففيه ثلاثة أوجهٍ أصحُّها إن فعلته بإذن الزَّوج والسَّيد جاز. وقال مالكٌ والطَّبري: والأكثرون أنَّ الوصل ممنوعٌ بكلِّ شيءٍ شعرٌ أو صوفٌ أو خرقةٌ أو غيرها واحتجُّوا بالأحاديث.
          وعند مسلم من رواية قتادة عن سعيد: نهى عن الزُّور قال قتادة: يعني: ما تُكثِّر به النِّساء أشعارهنَّ من الخرق، ويؤيِّده حديث جابر ☺ عند مسلم: زجرَ رسول الله صلعم أن تصلَ المرأة شعرها شيئاً، وقد مرَّ الكلام في ذلك فيما سبق أيضاً.
          وقال الحافظ العسقلانيُّ: وفي هذه الأحاديث حجَّةٌ لمن قال: يحرمُ الوصل في الشَّعر والوشم والنَّمص على الفاعل والمفعول به، وهي حجَّةٌ على من حمل النَّهي فيه على التَّنزيه؛ لأنَّ دلالة اللَّعن على التَّحريم من أقوى الدَّلالات، بل عند بعضهم أنَّه من علامات الكبيرة. وفي حديث عائشة ♦ دلالةٌ على بطلان ما رُوي عنها أنَّها رخَّصت في وصل الشَّعر بالشعر، وقالت: إنَّ المراد بالواصلة المرأة تَفْجُر في شبابها، ثمَّ تَصِل ذلك بالقيادة، وقد ردَّ ذلك الطَّبريُّ وأبطله بما جاء عن عائشة ♦ في قصَّة المرأة المذكورة في الباب.
          وفي حديث معاوية ☺ طهارة شعر الآدمي لعدم الاستفصال / وإيقاع المنع على فعل الوصل لا على كون الشَّعر نجساً، كذا قيل، وفيه نظرٌ.
          وفيه: جواز إبقاء الشَّعر وعدم وجوب دفنه، وفيه: قيام الإمام بالنَّهي على المنبر، ولا سيَّما إذا رآه فاشياً فيُفْشِي إنكاره تأكيداً ليحذر منه، وفيه: إنذارُ من عمل المعصية بوقوع الهلاك لمن فعلها قبله، كما قال تعالى: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83]، وفيه: جواز تناول الشَّيء في الخطبة ليراه من لم يكن رآه للمصلحةِ الدِّينية، وفيه: إباحة الحديث عن بني إسرائيل، وكذا عن غيرهم من الأمم للتَّحذير ممَّا عصوا فيه.